مع تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، والتي من أبرز تداعياتها ما يعرف بالتغير المناخي ومظاهره المتعددة كالجفاف، والتصحر، والفيضانات، وثقب الأوزون، وغيرها.. يرجع العلماء السبب إلى الازدياد المطّرد في الاعتماد على الوقود الأحفوري (النفط، الغاز، الفحم الحجري)، والذي بالإضافة إلى ذلك يساهم في تلويث البحار جراء تسرب النفط إليها، فضلا عن تلويثه للبيئة، والأمراض التي تسببها الغازات السامة والضارة المنبعثة من احتراقه.. إضافة إلى ارتفاع أسعاره واحتمالية نفاذه باعتباره من المصادر غير المتجددة.. لهذه الأسباب بدأ العالم يتجه للاستغناء عنه واستبداله بالطاقة النظيفة.
في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة الطاقة لأسباب متعددة، زادت الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها من حدتها؛ حيث قامت روسيا (وهي من أهم مصدري الغاز والبترول) بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا (بسبب العقوبات)، ما ينذر بأزمة إنسانية كبيرة، ومتدحرجة، ستمتد آثارها إلى مختلف دول العالم، خاصة في مجالات الكهرباء، والنقل، والتدفئة، وإمدادات الغذاء.
وبطبيعة الحال ستؤثر هذه الأزمات على فلسطين، لاسيما أنها تعاني أساساً من شُـحٍ في الموارد الطبيعية والثروات المعدنية، ومن ندرة مصادر الطاقة التقليدية، ومن ارتفاع أسعارها بما يوازي أغلى مدن العالم، فضلاً عن أزمة المياه، وهذه الأزمات كلها لأنّ الاحتلال يتحكم بحجم وكمية المحروقات (والمياه) وأسعارها، ومتى يسمح بدخولها، ومتى يمنع.. ويستخدمها سيفاً مسلطاً على الفلسطينيين، وأداة ضغط وابتزاز سياسي. وأوضح مثال على ذلك أزمة المحروقات التي يعانى منها قطاع غزة، والتي انعكست سلبياً على حياة الناس.
ومع أن مشكلة الطاقة عامّة في فلسطين، إلا أن الكثير من القرى والمناطق النائية تعاني بشكل أشد، وبعضها غير متصل بشبكة الكهرباء. وهنا تبرز الحاجة أكثر إلى مصادر الطاقة البديلة، والتي يمكنها المساهمة في دعم صمود المناطق النائية والمهمشة، التي يسعى الاحتلال إلى عزلها ودفع سكانها للهجرة.
ومن وحي هذه المعاناة وبسببها، يجب على الفلسطينيين تجاوز هذه المعضلة بإيجاد مصادر بديلة عن الوقود التقليدي، وهي مصادر الطاقة البديلة المتجددة، بشكل أساسي طاقة الشمس، ثم الرياح والحرارة الجوفية للأرض (لعدم وجود مساقط مائية في فلسطين)، والتي من خلالها سيقل معدل اعتمادهم على المحروقات الإسرائيلية.
وهذا التوجه يأتي منسجما ومتماشيا مع التوجهات العالمية المتزايدة للاعتماد على الطاقة الخضراء.
تقع فلسطين على 30 درجة شمال خط الاستواء، ما يعني أن الطاقة الشمسية التي تسقط على كل متر مربع فيها تقدر بثلاثة آلاف كيلو واط/ساعة، وهي نسبة عالية جداً بالمفهوم الإيجابي، كما تتمتع فلسطين بنحو 300 يوم مشمس في السنة، ما يجعلها من أفضل المناطق في استغلال الطاقة الشمسية، ويجعل الاستثمار في هذا الجانب ممكنا، وذا جدوى اقتصادية.
وحتى الآن، نجح الفلسطينيون إلى حد ما باستغلال الطاقة الشمسية، وبشكل خاص في الحصول على المياه الساخنة (90% من المنازل تستخدم الألواح الشمسية في تسخين المياه، وهي من بين أعلى النسب في العالم)، أما استغلال الشمس في توليد الكهرباء فيتم بدرجة أقل بكثير، وهناك محاولات أولية في استغلال طاقة الرياح، وطاقة الأرض الجوفية. وما زالت كل هذه التطبيقات في الطور الجنيني، ولكن يمكن تطويرها.
وبما أن أعلى نسبة استهلاك للكهرباء في القطاع المنـزلي، يجب تشجيع الأهالي على تركيب خلايا شمسية فوق أسطح منازلهم، وكذلك تشجيع المدارس والجامعات، والمباني التجارية، والمجمعات الحكومية، والمصانع، والتحول إلى أعمدة إنارة الشوارع المعتمدة على الطاقة الشمسية.. وهذا كله يتطلب تعاوناً من الحكومة (العمل على تطوير الصناعات الوطنية لأجهزة الطاقة البديلة، ثم توطين الصناعات المرتبطة بها، والاستغناء تدريجياً عن الخبرات الأجنبية، وجذب استثمارات لبناء محطات الطاقة الشمسية، ومحطات معالجة النفايات لإنتاج الكهرباء، تخفيضات ضرائب لمن يستخدم طاقة نظيفة)، ومطلوب من البلديات وجهات الاختصاص تسهيل إجراءات الترخيص، وتعاون من شركات الكهرباء (شراء الفائض من الطاقة المخزنة في البطاريات).
وبالطبع هناك تحديات وصعوبات عديدة تواجه هذا القطاع، أولها العراقيل التي تضعها إسرائيل لإعاقة أي مشروع فلسطيني من شأنه تعزيز الاقتصاد الوطني، وتحكّمها في البنية التحتية لشبكة الكهرباء التي تزود الأراضي الفلسطينية، ما يعيق السلطة عن وضع بنية تصلح للاستفادة من الطاقة الشمسية، مع أن المؤشرات على الأرض توحي بأن الحكومة الفلسطينية غير معنية بشكل جاد في الموضوع، أو أنها لا تبذل جهدا حقيقيا في هذا الاتجاه، وهذا الأمر ينطبق أيضا على شركات الكهرباء.. وبالإضافة إلى ذلك، فهناك ندرة في الأبحاث والدراسات الفلسطينية التي تتناول مواضيع الطاقة المتجددة، وعدم وجود خرائط توضح حركة الرياح وأماكن سطوع الشمس الأفضل، وخصائص التربة والمناخ، ودراسات الجدوى الاقتصادية، وكذلك عدم توفر أجهزة لتنفيذ القياسات الميدانية لتوزيع الحرارة في طبقات الأرض، وأيضا أدوات الحفر اللازمة للعمل، وارتفاع تكلفته، وضرورة تدريب المستخدمين على أعمال الصيانة، وعدم وجود آليات لربط الطاقة الفائضة المخزنة في البطاريات بالشبكة المركزية.
وأيضا: ضعف التشريعات والقوانين التي تنظم قطاع الطاقة البديلة، ففي الضفة الغربية هنالك أربع شركات تزود المواطنين بالكهرباء، وهي تأخذ التيار من الشركة القطرية الإسرائيلية، وفي نفس الوقت لا يوجد بينها سياسة موحدة أو تعرفة موحدة، ما يحتم وجود شركة كهرباء وطنية تزود الشركات الفرعية بحاجتها، ولكن ضمن سياسة موحدة تقوم على هيكلة تشريعية وقانونية معروفة.
وهذا يتطلب وضع سياسات عامة تحكم قطاع الطاقة البديلة وتوجهاته، وتحدد مساراته، ووضع الحلول العلمية لمواجهة الصعوبات.
الطاقة البديلة لم تعد خيارا ترفيا، بل أصبحت حاجة ملحة.. في العالم: بات التحكم في الطاقة ومصادرها من أهم عناصر القوة للدول الكبرى، ومن أهم عناوين الصراع، وملامح النظام الدولي الجديد، ومن أبرز سمات المستقبل، ومتطلبات دخوله.. في فلسطين: ستعود الطاقة البديلة بفوائد اقتصادية وسياسية وبيئية كبيرة. وقد حان الوقت لإتاحة الفرصة للإبداعات الفلسطينية، المحصورة حاليا في إطار المسابقات والمبادرات الفردية.