يحب الفلسطينيون الجزائر، ينقلون ذلك الحب من جيل إلى جيل كما ينقلون المقتنيات العزيزة القابلة للكسر، كانت الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي فكرتهم المتفائلة عن إمكانية التحرر من الاحتلال والاستيطان وهزيمة قوة عظمى.
بينما كانت أرتال اللاجئين الفلسطينيين تدق أوتاد الخيام وتشد الحبال في المخيمات التي ستصبح بيوتهم لعقود طويلة، كان الجزائريون يصعدون إلى جبال أوراس ويشعلون النار على أطراف القرى بعد عقود طويلة من الاحتلال الفرنسي لبلادهم واستيطان أكثر من مليون مستوطن فرنسي على أرضهم وتشكيل ميليشيا "الكف الأحمر" الفاشية، التي لا تختلف عن عصابات المستوطنين في الضفة الغربية ومناطق الـ48.
أقل من ست سنوات بين "النكبة" الفلسطينية العام 1948 وانطلاق الثورة الجزائرية العام 1954.
من مخيماتهم، تابع اللاجئون الفلسطينيون ثورة الجزائريين وواصل أولادهم ترديد نشيد الثورة الجزائرية في طوابير الصباح المدرسية قبل دخولهم إلى صفوفهم، النشيد الذي كتبه شاعر الثورة مفدي زكريا ولحنه الموسيقي المصري محمد فوزي في العام 1956:
"قسما بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات...
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا...".
بعد استقلال الجزائر، ستطالب حكومة فرنسا بحذف المقطع الثالث الذي يتوعد فرنسا بالحساب، ولكن الجزائر سترفض ذلك إلى حين اعتراف فرنسا بجرائمها. بقي الجزائريون يتوعدون الاستعمار الفرنسي الاستيطاني بالحساب والملاحقة كلما وصلوا إلى المقطع الثالث من نشيدهم الوطني، وواصل المستعمرون والمستوطنون الذين طردوا من الجزائر عبر البحر هم وجيشهم إنكار جرائمهم.
كانت تلك الثورة الملهمة إحدى وسائل صمود الفلسطينيين وأحد أسباب الثقة التي أوصلتهم إلى مطلع 1965 عندما أصبح لهم ثورتهم الخاصة.
في الجزائر، افتتح خليل الوزير أول مكتب لحركة فتح قبل انطلاقة الثورة 1963 وأول معسكر لتدريب المقاتلين، وفي الجزائر، جرى ترتيب أول لقاء بين خليل الوزير وتشي غيفارا في العام 1962، ومن هناك وبرعاية جزائرية انطلق أول وفد من "فتح" إلى الصين 1964 حيث افتتح المكتب الثاني للحركة في العاصمة بكين، في الجزائر توحدت منظمة التحرير بعد انشقاقات مريرة في ثمانينيات القرن الماضي حيث عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته الثامنة عشرة، نيسان 1987، بمبادرة من الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد...في كل محطة من التاريخ الوطني الفلسطيني كانت الجزائر حاضرة وبقوة.
يصعب حصر هذه العلاقة المتشابكة بين فلسطين والجزائر وزجّها في محطات أو أحداث، ولكن جسرا مطروقا من الترابط الروحي كان يمتد بينهما دائما.
أحاول عبر هذا السرد السريع والمختصر وصف مدى خيبة الأمل التي يمكن لمسها باليدين في أوساط الشعب الفلسطيني، بينما يتابع الفشل المتدحرج الذي وصلت إليه مبادرة "لم الشمل"، وهو آخر أسماء "المصالحة"، بمبادرة من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ويصغي إلى بيان المؤتمر ورطانة اللغة ويحدق في صور المجتمعين المثيرة للحزن وهم يشبكون أيديهم أمام الصحافة.
خيبة الأمل التي تتراكم الآن في كواليس الحكومة والشعب في الجزائر بعد شهور طويلة من الإعداد والحوارات والبحث عن قواسم مشتركة بين الفصائل الفلسطينية، والدهشة المؤلمة أمام عدم إدراك هذه الفصائل لضرورة الوحدة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والتخلي العربي وانشغال العالم عن المأساة الفلسطينية، وانشغالها، الفصائل، بمصالحها الصغيرة التي يوفرها الانقسام، عن الهبة الشعبية الموحدة التي تغطي شوارع الضفة الغربية.
ولكن الأمل الذي نشرته الثورة الجزائرية سيبقى هو الأثر الأعمق الذي تأسس في وعي الفلسطينيين وثقافتهم صبيحة اليوم التالي للنكبة، الأمل الذي يواصل بث الثقة التي تعبر الجسر الممتد الذي لم ينقطع يوما بين القدس والجزائر.