لا تقوم الدول والنظم السياسية لأنَّ مجموعة مغامرين، أو من تستهويهم السلطة، قاموا بتشكيل دولة أو استولوا على نظام الحكم فيها، ولم يكن للشعب أي دور أو مصلحة، وكان مجرد متلق وراضخ.. بل تقوم الدولة نتيجة تطور سوسيولوجي وتاريخي وسياسي، بحيث تلتقي مصالح الشعب مع الفئة الحاكمة بإقامة نظام يكفل ويحمي مصالح الطرفين، وينظم أمورهما.
قديماً، وقبل نشوء الدولة الوطنية، كانت المجموعات السكانية تتوافق على شكل بدائي من الحكم (طائفة، قبيلة، قرية..) واليوم، لا يمكن لأي مجموعة سكانية أن تعيش دون وجود سلطة سياسية تحكمها.. إلا إذا كانت في جزيرة منعزلة، وارتضت أن تعيش حياة المشاع الأولى.
فمع النمو السكاني، تعقدت العلاقات الاجتماعية والإنتاجية، وتشابكت المصالح الاقتصادية، وصار الناس بحاجة إلى تنظيم حياتهم ضمن قوانين مكتوبة، وسلطة سياسية لديها جهاز تنفيذي وقضائي وتشريعي، بكل ما يتفرع عنها من مؤسسات خدماتية وأمنية وتنظيمية وبنية تحتية.. وخلاف ذلك، فأي خلل في هذه المؤسسات سيؤدي إلى نشوء الفساد، والاضطرابات، والفوضى الأمنية، ولا تعود المنطقة صالحة للعيش الآدمي.. وهذا الشكل من التشابك والتداخل يحدث داخل كل دولة، ومع محيطها، ولم يعد ممكناً وجود جماعة بلا نظام سياسي تعترف به دول الجوار على الأقل، ولو واقعياً.
إذاً، المشكلة ليست في وجود السلطة السياسية بحد ذاتها، بل في العلاقة بين هذه السلطة والشعب، وجوهر المشكلة يكمن في طبيعة وبنية النظام، وحديّة التناقض بين الطرفين من حيث الأهداف والمصالح.
ومهما كانت طبيعة النظام الحاكم (اشتراكي، رأسمالي، ديني، نيوليبرالي، ديمقراطي..)، فإنه سيسعى بشتى السبل إلى فرض أيديولوجيته على الشعب، هذا من حيث الشكل الظاهر، أما من حيث المضمون، فإنه سيسعى إلى تكريس وحماية مصالح الطبقة الحاكمة (مع الإبقاء على الشعارات). ومن هنا يتولد الصراع بين السلطة والشعب، وتنشأ القوى المعارضة وحركات الاحتجاج والثورات الشعبية، وتلجأ الدولة إلى القمع، وهكذا. وهذا ما حدث على مر التاريخ.
والسؤال المطروح منذ القِدم: ما دور المثقف في هذه المعادلة؟
تاريخياً، نجحت الدول في خلق «المواطن المستقر»، الذي يقبل بالأمر الواقع، وينشغل بهمّه اليومي، ويتقبل السلطة على علاتها، ويؤمن بأنه ليس قادراً على مواجهتها، أو حتى معارضتها. مقابل ذلك، كانت تبرز دوماً جهتان تعارضان السلطة، الأولى: مجموعة القوى الطامحة لتغيير نظام الحكم، والاستيلاء على السلطة، أو مشاركتها بعض المنافع (مراكز القوى، الأحزاب السياسية، التيارات الأيديولوجية)، والثانية التي تسعى للتغيير والإصلاح، باستخدام النقد ومحاولة التأثير على السلطة والرأي العام، وتغيير القوانين، وخلق حالة وعي تقدمي. وهذه تمثلها جبهة المثقفين والأدباء (قوى التغيير)، ولا يعني ذلك خلو الجهة الأولى من مثقفين وأدباء ووعاظ سلاطين.
وعلى مر التاريخ، برهنت التجارب أن القوى الثورية التي سعت للإطاحة بالحكم، كانت إذا نجحت في ذلك، تقوم بتغيير وجه النظام وشكله، دون إحداث أي تغيير جوهري حقيقي في بنية النظام العميقة، ولا إحداث حالة تغيير إيجابية عميقة في ثقافة الشارع. ما يحدث أنَّ الوجوه تتغير، ويبقى الحال كما هو، ويظل الصراع والتناقض بين السلطة والشعب قائماً، ومتجدداً.
أما التجارب الناجحة، والتي أحدثت تغييرات جوهرية في بنية النظام، وثقافة الشارع، فهي التي بُنيت بعقول وأقلام المثقفين والأدباء، وأنتجت نظماً ديمقراطية، ودون أن يتوقف المثقفون عن مواصلة دورهم في إحداث المزيد من التغييرات ونقد أي نقص، أو مثلبة. وهذا الدور مطلوب وحيوي طالما هناك نظم سياسية ومجتمعات إنسانية، وتضارب في المصالح والأهداف بينها، فلا توجد تجربة يمكن وصفها بالكاملة.
علاقة المثقف بالسلطة من أعقد القضايا، وقد كتب عنها غرامشي، وإدوارد سعيد، وأبو لغد، وكثيرون غيرهم، ربما آخرهم خالد الحروب. لذا لا حاجة لإعادة كتابة ما قاله هؤلاء، وهم أساتذة مرموقون، وتسهيلاً على القارئ، سأبيّن الأمر بشكل مبسط ومختصر:
في عالمنا العربي الوضع مختلف، وبالغ التعقيد، وقد اعتدنا رؤية نمطين من المثقفين، الأول: المتملقون للسلطة، بخطاب تبريري ذرائعي، يقطر مديحاً لمنجزات السلطة وحكمة قيادتها. والثاني: المعارضون الجذريون الذين يرفضون السلطة ابتداء، ويعارضون كل ما يمتّ لها بصلة، وهؤلاء غالباً ما يقدمون خطاباً شعبوياً عاطفياً، أو أيديولوجياً منحازاً، وبمواقف سياسية مسبقة. ومن النادر وجود حالة وسط، تبني خطابها على أسس موضوعية أكثر عقلانية، بحيث تؤمن بداية بأهمية وجود السلطة، بوصفها نظاماً سياسياً مهمته خلق توازن بين مصلحة الطبقة السياسية الحاكمة، وبين مصالح الشعب وتطلعاته (من المفترض أن تكون حالة تماهٍ وانسجام كاملة بين الطرفين، ولكن هذا لا يحدث إلا في اليوتوبيا). ثم تقدم خطاباً نقدياً موضوعياً يرى الإيجابيات والسلبيات والأخطاء والمنجزات، ودون أحكام مسبقة.
ما يحدث أن المثقف إما أن يخاف من السلطة وقمعها وملاحقتها، فيلوذ بالصمت، أو يقدم خطاباً موارباً مموّهاً. وإما أن يخاف من دكتاتورية الرأي العام، فيقدم خطاباً شعبوياً.
ومشكلة العديد من المثقفين أنهم يركزون في نقدهم على السلطة الحاكمة، ولا يلتفتون إلى أهمية نقد الثقافة السائدة، والموروث الفكري والاجتماعي والديني.. أو يخافون المسّ بالتابوهات، أو يقتربون منها بحذر.
ومشكلة أخرى تكمن في منهج التفكير الحدي الثنائي، الذي يرى المشهد بلونَين فقط (أسود أو أبيض)، فالسلطة كلها فاسدة، ومنجزاتها تافهة، والشعب دائماً على حق.. أو أن السلطة رائعة، والشعب متخلف.
وهناك أصحاب العقلية التطهرية، الذين يتجنبون الاقتراب من السلطة (حتى لو كانت ثورية وتقدمية)، حتى لا تلوث تاريخهم، ولا يُقال عنهم مثقفو سلطة ووعاظ سلاطين.
التحدي الكبير أمام المثقف الحقيقي (المشتبك) أنه يقاتل على جبهتين، الأولى: «السلطة»، التي بيدها الإعلام والعسكر والاقتصاد والنفوذ.. ومطلوب منه نقدها والرقابة على أدائها، ومنع تغوّلها على القانون والمجتمع، أو الاستئثار بالحكم لصالح فئة معينة.
والثانية: «المجتمع التقليدي»، بواقعه الاجتماعي المتخلف، المسكون بالخوف من التغيير، والذي بيده المقدس، والقيم السائدة، والتابوهات الدينية والاجتماعية ويمنع أي أحد من الاقتراب منها.. والمطلوب إلى جانب نقد الموروث الثقافي والقيم الرجعية مواصلة النضال للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، والحرية، وسيادة القانون، ونصرة المظلومين.
لذا، فالمثقف الحقيقي، هو الذي عادة ما يدفع الثمن، مرة من السلطة، ومرة من المجتمع.. وأحياناً من زملائه المثقفين، الذين سيلومونه، أو يحاربونه، أو يكتفون بالفرجة.