يفرض الحدث العراقي حضوره بقوة بين كل أحداث المنطقة.
يتزامن في قوة حضوره مع أحداث لا تقل أهمية ولا إشكالية وربما خطورة تحصل في أكثر من بلد عربي حتى ولو اختلفت في طبيعتها أو في تفاصيلها وفي مراميها وفي ارتباطاتها أيضا (ليبيا ... السودان ...اليمن... لبنان...وطبعا فلسطين...).
وبالطبع فإن ما يجري في العراق يعود في جذره إلى الغزو الأميركي واحتلاله المباشر له. والغزو المذكور قام على رؤية أميركية عامة للمنطقة كجزء مما أطلق عليه «الشرق الأوسط الجديد»، تلك الرؤية التي ترى ضرورة تفكيك ما هو قائم، وضمان استمرار تفكك الدول والمكونات السياسية والمجتمعية للمنطقة بهدف إعادة تشكيلها على أسس إثنية وطائفية وقبلية متصارعة ومتناحرة، وبذلك تكون سهلة السيطرة عليها وعلى مكوناتها ودفعها باتجاه خدمة المصالح الأميركية خاصة والدول الغربية عامة.
ويعود أيضا، إلى ما أحدثه الاحتلال من تغييرات جوهرية في بنى وركائز عراقية أساسية، مثل حل الجيش العراقي وحل الأحزاب التي كان حضورها يضرب عميقا في بيئة العراق وفي حياته السياسية والمجتمعية، وفي تاريخه أيضا. وما فرضه بديلا لما تقدم من قواعد وطرائق مختلفة (جديدة) للعمل السياسي ومؤسساته بشكل عام وللعمل الحزبي منه بشكل خاص.
خصوصا، وقد ترافق كل ذلك مع إيقاظ الطائفية وتصديرها وتعزيز وزنها ودورها المقرر في التعامل مع مكونات الحكم في العراق ومؤسساته وسياساته وعلاقاته بمنطق طائفي. وترافق أيضا، مع الاحتكام لها (الطائفية) في تقرير أمور تلك المكونات والمؤسسات وفي تركيبتها والأدوار التي تقوم بها والمسؤوليات التي تتولاها.
وقد حرص الغزو الأميركي على ترسيخ كل المتغيرات والعلاقات المشار إليها بشكل يضمن استمرارها بنفس الشكل والمحتوى بعد مغادرته للعراق وانتهاء وجوده وتحكمه المباشرين.
الآن، ودونما ضرورة أو حاجة للرجوع بعيدا في السنين المغادرة، أو للبحث والتعمق في الأسباب والخلفيات فإن أي نظرة إلى العراق وأوضاعه مهما كانت متسرعة لا تبعث في النفس السرور ولا حتى الراحة والحيادية، بل تبعث كل المشاعر المتناقضة: الخوف والقلق على العراق واستقراره وتقدمه، وعلى معيشة وراحة أهله وناسه واستقرارهم، ومقترنة مع افتقاد لدور العراق الفاعل والمؤثر في شؤون وشجون دول المنطقة وأهلها وتطلعاتهم.
كما تدعو إلى الرجاء والأمل مقرونين بالعمل المخلص في سرعة خروجه من هذه الحال، والتطلع إلى عودته لوضعه الطبيعي كمقدمة لعودته إلى دوره الطليعي والمؤثر في كل أحوال وأمور وتطلعات المنطقة. وتزيد من درجة التطلع المقرونة بالدور الذي يمكن للعراق القيام به على كل المستويات والكثير من المجالات، المعرفة الموضوعية ودونما مبالغة لحقيقة إمكانات العراق وأهله وقدراته والدور المؤثر الذي يمكن أن يلعبه في أكثر من مجال وعلى أكثر من مستوى.
إن المظهر الطائفي هو المظهر الأكثر بروزا وتأثيرا لدرجة تصل حد التحكم.
وعلى الرغم من استمرار حضور كل الطوائف فإن المظهر الطائفي الغالب بجدارة ووضوح شديدين يبقى مظهر الطائفة الشيعية، ويتراجع في مقابله كثيرا حضور ودور وتأثير الطوائف الأخرى.
ويكاد هذا المظهر الطائفي ينحصر في مكونين تنظيميين وسياسيين من مكونات الطائفة. والغريب أن الطابع الرئيسي والطاغي لهذا المظهر هو طابع خلافي وتنافسي علني وعميق في نفس الوقت، بما يزيد الصورة العراقية العامة المعروضة تعقيدا وصعوبة في نفس الوقت.
والغريب أيضا، انه مع احتدام حالة التنافس بين المكونين الشيعيين المذكورين وخروجها إلى العلن واكتسابها درجة عالية وعلنية من الحدة وعمق الخلاف، فإن المرجعية الدينية الشيعية ممثلة في «السيستاني» أو أي من مساعديه المقربين لم تتقدم وتبادر إلى أي مسعى أو محاولة لرأب الصدع بين المكونين الشيعيين والوصول إلى رؤية توافقية مشتركة ومواقف موحدة تقوم على أساسها.
وتبقى وتستمر الصورة السياسية العامة للوضع في العراق: تنافس مكشوف يصل حد التصارع على الحكم ومؤسساته وامتيازاته، على حساب البلد ومصالحه واحتياجاته ودوره، وعلى حساب أهل البلد واحتياجاتهم وحقوقهم. وأيضا على حساب دور العراق المهم والمؤثر في التعاطي الوازن والفاعل مع أوضاع المنطقة العربية وقضاياها الضاغطة.
ويبقى مع هذه الصورة سؤال يلازمها: لماذا لا يوجد أي تحرك مسؤول باسم الكل العربي (جامعة الدول العربية مثلا) أو باسم عدد من الدول العربية الوازنة والمستقرة يسعى بشكل جاد ومسؤول إلى مساعدة العراق وأهله في الخروج من حالهم الموصوف.