خبر : لمَ حققتُ في سلوك إسرائيل في غزة?...ريستشارد غولدستون

الجمعة 23 أكتوبر 2009 10:40 م / بتوقيت القدس +2GMT
لمَ حققتُ في سلوك إسرائيل في غزة?...ريستشارد غولدستون



اعتقدت بصدق أننا, بفضل سجلي الخاص وتفويض هذه البعثة, سنحظى بتعاون الحكومة الإسرائيلية, لكن رفضها التعاون شكّل خطأ فادحاً, وكررت طلبي هذا قبل بدء التحقيق وخلاله, ويظهر التماسي جلياً في ملاحق تقرير غزة, في حال تكبد أحد عناء قراءته.   بعد مرور خمسة أسابيع على نشر تقرير لجنة تقصي الحقائق بشأن غزة, لم يحاول أي من منتقديه فهم جوهره الحقيقي, فقد قبلَ به كل مَن ظن أنه يخدم مصالحه, أما مَن ظنوا العكس فسارعوا إلى إدانته ورفضه, وغالباً ما يشن رافضو هذا التقرير هجوماً شخصياً على دوافع واضعيه, في حين أن داعميه يشيدون بسمعة كتّابه الحسنة.   هاجم الناطقون باسم الحكومة الإسرائيلية وداعموهم هذا التقرير, مستخدمين أقسى التعابير, وتناولوا مشاركتي فيه على وجه الخصوص, موجهين إليها الانتقادات الشخصية الأكثر إيلاماً, ولكن آن الأوان للتفكير بطريقة أكثر تعقلاً وموضوعية في معنى هذا التقرير وردود الفعل الإسرائيلية المناسبة تجاهه.   أود في البداية التحدث عن دافعي الشخصي الذي حملني على ترؤس بعثة غزة, مع أنني يهودي وقد دعمت إسرائيل وشعبها طوال حياتي. خلال السنوات العشرين الماضية, حققت في انتهاكات خطيرة للقانون الدولي في بلدي جنوب إفريقيا وفي يوغوسلافيا السابقة ورواندا, فضلاً عن عمليات الاحتيال والسرقة المزعومة التي ارتكبتها حكومات وقادة سياسيون في عدد من البلدان وترتبط ببرنامج "النفط مقابل الغذاء" العراقي التابع للأمم المتحدة. وفي كل هذه الحالات, بلغت الادعاءات أعلى الدرجات السياسية. لكنني لم أتردد لحظة في التكلم بصراحة وجرأة وعملت على إنهاء التحقيقات على أتم وجه وإجراء الملاحقات الجنائية, إذا بدت ضرورية. وطيلة سنوات, تحدثت باسم اتحاد المحامين الدولي, منتقداً انتهاكات حقوق الإنسان في الكثير من البلدان, بما فيها سريلانكا والصين وروسيا وإيران وزيمبابوي وباكستان.   لو أنني رفضت طلب الأمم المتحدة التحقيق في ادعاءات خطيرة عن جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل و"حماس" خلال عملية "الرصاص المسكوب", لكنت بذلك أخالف هذه المبادئ ومعتقداتي وضميري. وبما أنني يهودي, شعرت بواجب أكبر, لا أقل, يدفعني إلى الاضطلاع بهذه المهمة, وتُظهر الوثائق بوضوح أن شروط مشاركتي التي أصررت عليها ومُنحت لي, شملت تفويضاً محايداً يتيح لي التحقيق في سلوك كل الأطراف, وهذا بالتحديد ما سعينا في سبيله. اعتقدت بصدق أننا, بفضل سجلي الخاص وتفويض هذه البعثة, سنحظى بتعاون الحكومة الإسرائيلية, لكن رفضها التعاون شكّل خطأ فادحاً, وكررت طلبي هذا قبل بدء التحقيق وخلاله, ويظهر التماسي جلياً في ملاحق تقرير غزة, في حال تكبد أحد عناء قراءته. طبعاً, لا تستطيع بعثتنا أن تدرس إلا ما تراه وتسمعه وتقرؤه فتضمنه تقريرها. وإذا أخفقت حكومة إسرائيل في لفت انتباهنا إلى بعض الحقائق والتحاليل, فمن المجحف لومنا على العواقب, لذلك على مَن يشعرون بأن تقريرنا قصّر عن إلقاء ضوء كافٍ على حوادث ومسائل محددة أن يسألوا الحكومة الإسرائيلية لمَ فشلت في تقديم حججها وبراهينها.   ضيّعت إسرائيل فرصة ذهبية, فرصة أن تحظى بجلسة استماع عادلة في هذا التحقيق الذي ترعاه الأمم المتحدة. أنا أعي بالتأكيد معاملة إسرائيل غير العادلة والاستثنائية في الأمم المتحدة, خصوصاً مجلس حقوق الإنسان, ولطالما نددت بهذا الأمر.   وهذا ما فعلته مرة أخرى الأسبوع الماضي, وكان بإمكان إسرائيل أن تقتنص الفرصة التي أُتيحت لها بفضل تفويض بعثتنا المحايد وتحولها إلى سابقة في توجه جديد للأمم المتحدة في الشرق الأوسط, ولكن بدلاً من ذلك, أوصدت إسرائيل أبوابها في وجهنا.   وكما ذكرت في رد على رسالة تلقيتها أخيراً من عمدة سديروت, أؤمن بصدق أن بعثتنا كان يلزم أن تزور سديروت وأجزاء أخرى من جنوب إسرائيل عانت من اعتداءات غير شرعية بسبب آلاف الصواريخ وقذائف الهاون التي أطلقتها "حماس" ومجموعات مسلحة أخرى في غزة على المدنيين. إلا أننا مُنعنا من ذلك نتيجة ما أعتقد أنه قرار غير حكيم اتخذته الحكومة الإسرائيلية.   في غزة, فاجأني, لا بل صدمني, مدى الدمار والبؤس المنتشرين هناك, فلم أتوقع ما رأيته, ولم يخطر في بالي أن قوات الدفاع الإسرائيلية قد تستهدف مدنيين ومباني مدنية, ولم أتوقع أن أرى هذا الدمار الواسع النطاق في البنية التحتية الاقتصادية في غزة, بما فيها أراضيها الزراعية ومعاملها الصناعية وأعمال تأمين المياه ومجارير الصرف الصحي. لا تُعتبر هذه أهدافاً عسكرية. ولم أسمع أو أقرأ أي تبرير حكومي يعلل هذا الدمار.   لا شك في أن أطفال سديروت وأطفال غزة يتمتعون بحقوق الحماية نفسها التي ينص عليها القانون الدولي. لهذا السبب, تجاهلنا قرار الحكومة الإسرائيلية واتخذنا كل الخطوات المتاحة أمامنا للحصول على معلومات من ضحايا وخبراء في جنوب إسرائيل بشأن تأثير سقوط الصواريخ وقذائف الهاون المستمر منذ سنوات في حياتهم. وبالاعتماد على هذه التحقيقات, اعتبرنا أن هذه الاعتداءات تشكل جرائم حرب خطيرة وعلى الأرجح جرائم ضد الإنسانية.   لم يمنعنا رفض الحكومة الإسرائيلية التعاون معنا من التجاوب مع طلب والد جلعاد شاليط مخاطبة بعثتنا شخصياً خلال جلستها العلنية التي عُقدت في جنيف. ولا شك في أن كل من سمعوا أدلته تأثروا بذلك الألم العارم لأب ولده محتجز منذ أكثر من ثلاث سنوات في ظروف غير شرعية من دون أن يُسمح له بالاتصال بالعالم الخارجي أو أن تزوره اللجنة الدولية للصليب الأحمر, لذلك طالبت البعثة بإطلاق سراحه.   لطالما أقرت إسرائيل ومحاكمها أنها ملزمة بالتقيد بمعايير القانون الدولي الذي صدقته رسمياً أو أصبح ملزماً بصفته قانوناً عرفياً دولياً يُطبَّق على كل الدول. صحيح أن الأمم المتحدة وأعضاء كثيرين في المجتمع الدولي استثنوا إسرائيل من الإدانة وقصّروا عن التحقيق في انتهاكات مريعة لحقوق الإنسان في بلدان أخرى, لكن ذلك لا يجعل إسرائيل محصنة ضد المعايير التي قبلت بها واعتبرتها ملزمة لها.   تملك إسرائيل تاريخاً طويلاً من التحقيق في الادعاءات الموجهة ضد مسؤوليها حتى لو تبوأوا مناصب مرموقة في الحكومة, مثل التحقيقات في حرب أكتوبر, وصبرا وشاتيلا, والباص 300 (اتهامات بقيام عناصر من جهاز "الشين بيت" بإعدام اثنين من خاطفي إحدى الحافلات الإسرائيلية في عام 1984), وحرب لبنان الثانية.   لطالما امتلكت إسرائيل واشتهرت دولياً بجهاز قضائي يجب أن تحسدها عليه دول كثيرة في المنطقة, كذلك تتمتع بالقدرة والسبل اللازمة لتجري تحقيقاً هي بنفسها. فهل تفعل ذلك?.