غزة التي لا تركع..عاطف أبو سيف

الإثنين 08 أغسطس 2022 09:55 ص / بتوقيت القدس +2GMT
غزة التي لا تركع..عاطف أبو سيف



غزة التي لا تركع هي غزة التي حملت اسم فلسطين بعد النكبة، حين لم يبقَ من الساحل الفلسطيني إلا هذا الشريط الصغير شرق المتوسط يحمل اسم البلاد الكبيرة التي سرقها الغزاة، لذا لم تركع لأنها لو ركعت وقتها لضاع اسم فلسطين إلى الأبد. لذا ظلت غزة تقاتل وتتنفس رغم المجازر والعدوان والقصف ولم تستسلم. الاستسلام هو الكلمة غير الموجودة في قاموس التداول في المنطقة الأكثر اكتظاظاً، لأن هذا الاستسلام يعني أن أصحاب الحكاية سينسون المغزى من الحفاظ عليها. لذلك كله، فإن غزة لا تركع وظلت تقاتل من أجل أن يظل اسم فلسطين عالياً.
وغزة التي لا تركع هي غزة التي صنعت المعجزات رغم كل ظروفها القاهرة، غزة التي قاتلت شمشون لأنها لم تؤمن أن الفلسطيني يمكن أن يستسلم، لكن الغزاة، إذا ما زال سحر شعورهم، سيخسرون لأنهم أضعف من رمال السوافي قرب الشاطئ.
كل شيء في غزة يذكرك بهذا الإرث الكبير. البحر وموجه العنيد، نصب الجندي المجهول، أسماء الشوارع: النصر الوحدة (العربية) عمر المختار، جمال عبد الناصر، الجلاء، صلاح الدين، أسماء المدارس والميادين، القصص الشعبية وحكايات الجدات. كل شيء في غزة يقول لك: إن عليك البقاء صامداً مهما كانت الظروف. كانت ثمة يافطة قديمة على مدخل المدينة قرب مصنع السفن آب تقول: "غزة ترحب بكم".
أن تنشأ في غزة يعني أن تكبر مع حكايات البطولة والفدائيين الذين حملوا السلاح وهم يبحثون عن شمس البلاد التي سرقها الغزاة. أن تكبر على حكايات المجموعات الأولى من هؤلاء الفدائيين الذين امتشقوا السلاح في الخمسينيات والستينيات وكانوا يعبرون الأسلاك الشائكة إلى القرى والمدن التي أرغموا على الهجرة منها؛ من أجل أن يثأروا لدماء من ذبحتهم العصابات الصهيونية في أكبر عملية تطهير عرقي في التاريخ. أن تستمع للكثير من قصص هؤلاء الأبطال الذين عملوا مع مصطفى حافظ الضابط المصري الشاب، الذي كان يعمل وفق تعليمات جمال عبد الناصر قبل أن يتم اغتياله بطرد بريدي، أن تكبر وأن تمر بجوار المدرسة الشهيرة التي تحمل اسمه تخليداً لتضحيته من أجل فلسطين.
أن تكبر مع حكايات عن جيش التحرير أو جيش الشقيري، وتسمع قصصاً في الحارة عن رجال قاتلوا حتى الرصاصة الأخيرة حتى لا تقع النكسة، وعن قوات التحرير وفدائييها الذين أبوا إلا أن يظل اسم فلسطين مرفوعاً رغم أن "الجيش الذي لا يقهر" هزم الجيوش العربية في ستة أيام. أن تكبر في غزة ستظل تسمع ببطولات غريبة وبسيطة قام بها هؤلاء الفتية، الذين شكلوا خلايا الثورة الفلسطينية الأولى في نهاية الستينيات وطوال السبعينيات. الفدائيون الذين كان يحكمون غزة بالليل ويسيطرون على كل طرقاتها ويروّعون العدو ويحولون حياته لجحيم. أن تسمع قصصاً عن جيفارا غزة وعن رفيق السالمي وعن فدائيين حملوا أحلام البلاد إلى آخر منتهى الكفاح. جيفارا ورفيق من أسماء غزة الكبرى، لم يعرفا إلا قتال العدو ونصرة الناس. أن تكبر في غزة يعني أن تكبر مع كل هذا التوق للحرية وللخلاص، وكل هذا العمل الجاد من أجل فلسطين. وبعد ذلك ستكبر مع حكايات عن الانتفاضة الأولى والفتية الذين آمنوا بأن الجيش الأسطورة أوهن من بيت العنكبوت، وأن الجندي المدجج بكل السلاح سيهرب أمام إرادة طفل في العاشرة، أن ترى كيف للمرأة أن تقاتل وكيف للشيخ الثمانيني أن يقاتل كشاب يافع، وكيف للطفل أن يركض كمهر في الفيافي.
أن تكبر في غزة يعني أن ترث كل حكايات الجدات عن البلاد الجميلة التي اغتصبها الغزاة، أن تحفظ أسماء القرى الأربعين أو الخمسين التي هُجّر منها سكان المخيم. أن تحفظ أسماء حارات المخيم وفق القرى التي تهجر منها سكان كل حارة، وأن تستطيع حفظ أسماء عائلات كل قرية وتعرف قرية الشخص من اسم عائلته، وربما تحفظ شكل ثوب كل قرية وبعض اللهجات الخاصة ببعضها إن وجدت. أن تكبر هناك يعني أن تكون أنت سيرة المكان وسيرة سكانه. السيرة التي سترثها لأن عليك أن تحفظها وتحملها على كتفك للأجيال اللاحقة. أن تكبر في كل هذا التراث يعني أن تحفظ تلك الحكايات، وتحفظ الطرائف عن كل قرية، وبعض تلك الطرائف يبدو مثل حيلة أو مكيدة يمكن استفزاز أهلها عند سردها.
أن تكبر في كل هذا المرجل الذي يغلي ويفور غضباً؛ لأن تخوم البلاد المنهوبة خلف التلال "تبصبص" على أحوال أهلها الذين هجروا منها وتبكي مثلهم. أن تسير في الأزقة وأنت تدرك أن آلاف الخطوات عبرت على التراب حتى هدأ وسكن وصار درباً يبحث عن الحرية مثل من داسوه. أن تكبر في غزة هو أن تكبر في كل هذا الغضب والأمل والسعادة المفقودة وتلك المستعادة؛ لأن عليك أن تعيد إنتاج الحكايات من أجل أن تظل الحكايات غذاء الملكات للأجيال اللاحقة لأنهم لن ينسوا حتى حين يموت الكبار.
أن تكبر في غزة هو أن ترث كل ذلك. أن تستمع لحكايات الكهول عن الزمن الجميل، وعن الوقت المستقطع الذي نجوا فيه من الموت ألف مرة، فتدرك وقتها أنك ستنجو في كل الأحوال حتى وإن سقطت على الطريق، لأن الطريق لا يسقط حتى يصل مبتغاه. أن تعرف أن الحياة أكبر من قدرة اللصوص على سرقة الأنفاس من الروح، وأن الطيار القاتل الذي جاء من مكان خارج الجغرافيا لا يعرف شيئاً إلا كيف ينتهي من مهمته التي هي قتلك، لذا فإن تلك السادية التي يشعر بها ليست إلا تعبيراً عن حقيقة المشروع الكبير الذي أراد سرقة البلاد. اللصوص يسرقون ما ليس لهم، لذا فإنك تكبر أكثر يقيناً أن البلاد لك.
لذلك كله فإن غزة لا تركع.