يكتب الكثير من المحللين السياسيين عن قرب نهاية تفرد أميركا بالنظام الدولي على خلفية حرب أوكرانيا، لكنهم لا يعرفون بداية ما هو النظام الدولي الذي سينتهي، وما هي ملامح النظام الجديد الآخذ بالتشكل، وفوق ذلك، هم لا يدركون أيضاً بأن الحرب في أوكرانيا هي بالنسبة لروسيا حرب اضطرارية أُجبرت عليها ولم تخترها.
النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية كانت ملامحه واضحة: كتلتان كبيرتان، الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة، والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي.
الولايات المتحدة كانت لها مناطق نفوذ واضحة هي أوروبا الغربية وكندا واليابان وأستراليا. أما الاتحاد السوفييتي فإن مناطق نفوذه كانت أوروبا الشرقية وكوبا وفيتنام.
ما تبقى من العالم كان عبارة عن ساحة مواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. حتى الصين وكوريا الشمالية واللتان كانتا أقرب الى الاتحاد السوفييتي من الولايات المتحدة، كانتا أيضا ساحات مواجهة بين القطبين.
البعض ربما يذكر مثلا كيف سعت الولايات المتحدة لإبعاد الصين عن الاتحاد السوفييتي في بداية سبعينيات القرن الماضي عندما طبعت إدارة الرئيس الأميركي نيكسون العلاقات الدبلوماسية معها، وقبلت بالموقف الصيني من تايوان.
البعض ربما يعتقد بأن الصين كانت دائماً أحد الأعضاء الخمسة في مجلس الأمن الذين يحق لهم حق النقض «الفيتو». لكن هذا غير صحيح، تايوان هي كانت صاحبة هذا الحق، وتم إخراجها وتجريدها من هذا الحق من نادي الخمسة الكبار بعد الاتفاق الصيني الأميركي وتم إدخال الصين بدلا منها في العام 1973 فقط.
معالم النظام الدولي الجديد الذي تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بدأت معالمه تظهر في نهاية الحرب الباردة ومنها هيمنة الدولار على المعاملات التجارية، وقدرة المؤسسات المالية الأميركية وليست «الغربية» مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على فرض شروطها الاقتصادية والسياسية على أي دولة تلجأ أليها لطلب القروض.
لكن الأهم من ذلك هو ما حدث للنظام الدولي بعد السقوط الفعلي للاتحاد السوفييتي، حيث أصبحت الولايات المتحدة قادرة على التدخل عسكرياً في أي دولة تريدها دون قرار من مجلس الأمن مثلما فعلت في صربيا والعراق. وأصبحت قادرة على توسيع عضوية الناتو كما تريد لتحاصر به روسيا وتهدد أيضاً الصين.
وأصبحت الولايات المتحدة، أيضاً، بسبب النظام المالي العالمي الذي أنشأته وإنفاقها العسكري الخيالي، قادرة على معاقبة من تشاء اقتصادياً من الدول بحيث تكون هي المستفيد الأول من هذه العقوبات دون أن يتمكن أحد من معارضتها. كما تولدت لديها نزعة للخروج من أي اتفاقيات أمنية دولية كانت قد وافقت عليها سابقاً أثناء وجدود الاتحاد السوفييتي إن لم تخدم هذه الاتفاقيات مصالحها المباشرة.
هذه ملامح النظام الدولي الجديد الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة، وأي حديث عن نظام دولي جديد يتشكل على خلفية الحرب في أوكرانيا يجب أن يخبرنا كيف تغيرت هذه الملامح.
هل أصبحت الولايات المتحدة «عاجزة» عن التدخل عسكرياً خارج نطاق رغبة مجلس الأمن؟ هل أصبحت غير قادرة على معاقبة من تشاء من دول اقتصادياً؟ هل فقدت قدرتها على السيطرة على حلفائها في دول الناتو؟ هل فقدت مؤسساتها المالية والدولار مكانتهما العالمية؟ وهل أصبحت مجبرة على توقيع اتفاقيات أمنية تراعي من خلالها مصالح خصومها؟
هذا لم يحدث للآن على الأقل ولا نعتقد بأنه سيحدث ما لم تخرج حرب أوكرانيا عن السيطرة. بمعنى ما لم تتوسع هذه الحرب لتشمل دولاً أُخرى بحيث تصبح الكثير من الدول مجبرة على الانحياز «غرباً أو شرقاً» بشكل واضح وبما يترتب على ذلك من التزامات عسكرية واقتصادية.
هذا لن نراه يحدث في المستقبل القريب، لأن طبيعة الدول الوطنية ـ وهنا نتحدث عن الدول المُؤثرة عالمياً وليس عن الدول التي «تسعى لنيل رضى الآخرين» للحفاظ على نظامها السياسي ـ مثل الصين والهند وتركيا وألمانيا وفرنسا وإيران، تستغل عادة الصراع القائم لتعزيز مكاسبها الآنية والبعيدة.
الصين مثلاً وهي قريبة من روسيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ورغم انها معنية أيضاً باستنزاف الولايات المتحدة وإشغالها بعيداً عنها، لكنها أيضاً معنية بالحفاظ على علاقاتها التجارية المربحة لها مع الولايات المتحدة. لذلك الصين ليست معنية بالاصطفاف العلني مع روسيا، لكنها أيضا ستمد يدها لمساعدة روسيا اقتصادياً وربما عسكرياً، أقله لمنع الولايات المتحدة من الانتصار على روسيا.
والحال ينطبق على الدول الأخرى وإن بطرق مختلفة. فرنسا وألمانيا لا تريدان الحرب لأن من مصلحتهما علاقات طيبة مع روسيا، لكنهما أيضاً لا يغامران بالخروج من عباءة الولايات المتحدة لأنهما يعتمدان عليها في أمنهما.
لذلك فقط عندما تحدث اصطفافات واضحة المعالم يمكن لنظام دولي جديد أن يظهر، لأن قدرة أميركا في وضع كهذا على ممارسة العقوبات الاقتصادية ستضعف كثيراً، والدولار سيمكن استبداله بعملات أخرى، ومؤسساتها المالية ستصبح أقل أهمية، وأيديها ستكون مقيدة أكثر في تدخلها العسكري الخارجي خوفاً من الخسائر التي قد تلحق بها، وهو ما سيجبرها على توقيع اتفاقيات أمنية جديدة تراعي مصالح الآخرين.
هذا لم يحدث للآن، وبالتالي من المبكر جداً الحديث عن نظام دولي جديد يتشكل على خلفية حرب أوكرانيا.
يضاف لما تقدم أن الحرب في أوكرانيا بالنسبة لروسيا لم تكن حرباً اختيارية كما يصورها الغرب، ولكنها حرب دفعتها لها الولايات المتحدة بقصد استنزافها وإضعافها.
الولايات المتحدة وحتى قبل حرب روسيا على أوكرانيا العام ٢٠١٤ عملت على خلق أوكرانيا معادية لروسيا، وبعد الحرب قامت بتسليحها وتدريب جيشها، وشجعتهم على عدم تنفيذ اتفاقيات مينسك، وتركت لهم الباب مفتوحاً للانضمام للناتو. إن لم يكن كل ذلك سعياً منها لجعل أوكرانيا ساحة مواجهة مع روسيا، فماذا هو إذاً؟
روسيا دخلت الحرب، وهي في تقديري ستنتصر فيها في نهاية المطاف، أقله ستفصل منطقة الدونباس عن أوكرانيا وستدمر أوكرانيا لعشر سنوات إن لم يكن لعشرين سنة قادمة، لكنها أيضاً قد تضعف وتُستنزف بفعل الحرب، حتى لو ربحتها، وسيضعف بالتالي نفوذها الخارجي وقدرتها على تحدي الولايات المتحدة أو لنقل تحدي النظام الدولي الذي تمثله الولايات المتحدة.
إن حدث ذلك، فإن حرب أوكرانيا ستكرس النظام الدولي الأحادي القائم ولن تغيره.