هآرتس - بقلم: جدعون ليفي لن تتركنا أشباح الطنطورة حتى يموت آخر الشهود والأحفاد، ولن تتركنا إلى أن تخرج الحقيقة إلى النور وتعترف بها إسرائيل. هذا هو شأن الحقيقة… لا تترك. رغم بذل كل الجهود لإخفائها وتصفية من يكشفها إلا أنها تظهر من جديد كل مرة. الفيلم الوثائقي الصادم “الطنطورة” لألون شفارتس، الذي تم بثه نهاية الأسبوع في مهرجان ساندنس في الولايات المتحدة، كان يجب أن يبث في مهرجان إسرائيل. قد يؤدي إلى راحة صحيحة للأشباح ويجبر إسرائيل على الاعتراف أخيراً بالحقيقة. بالطبع، لن يحدث هذا.
لم يكن هناك الكثير من الأسماء المحملة في طفولتي، مثل الطنطورة. كانت الطنطورة شاطئاً رائعاً مع البحيرات الزرقاء، كنا نسافر إليه بعد أن اشترى والدي أول سيارة بأموال التعويضات التي حصل عليها من ألمانيا. كان السفر إلى الطنطورة أكثر إثارة من السفر إلى نيويورك الآن. ولم يكن هذا بسبب لون المياه الأزرق؛ لقد عرفت أن الرمال البيضاء مشبعة بالدماء. في الطنطورة قتل جدعون بخراخ، الابن الوحيد للزوجين الطبيبين البينا وآرثر بخراخ، أفضل أصدقاء جدي وجدتي. وقد تمت تسميتي على اسم جدعون المتوفى. عرفت أن شاطئ الطنطورة مشبع بدمائه، ولم أعرف أن هذا الشاطئ مشبع بكثير من الدماء. أعرف أن الطنطورة كانت قرية صيادين رائعة، قرية سيتم الحفاظ عليها لمئات السنين، ولم يخطر ببال أحد محوها عن وجه الأرض وطرد سكانها أو ذبحهم.
بعد ذلك، بدأت الشائعات حول المذبحة. المحامي ميخا فيتكون، ابن شقيق قاضي المحكمة العليا “الفريد فيتكون”، كان يوبخني بغضب كلما تجرأت على ذكر الشائعات. كان “فيتكون” صديق السلاح الجيد لجدعون في لواء الكسندروني الذي احتل الطنطورة. أمس، سمعت صوت “فيتكون” الذي مات منذ فترة طويلة، وهو يتحدث في فيلم عن قائد الفصيل الذي قتل عربياً تلو الآخر بمسدسه في الطنطورة: “لقد أطلق النار عليهم واحداً تلو الآخر بمسدس برابيلون خاصته”. ميخا الطويل، كما سماه أصدقاؤه واعتبر شخصاً مستقيماً جداً، كسر صمته. غبرئيل كوفمان العجوز يستمع لأقواله في الفيلم ويضحك بحرج. هو لا يتذكر، لا يصدق، لم يسمع. “هذا ليس طبعنا… فأن تطلق النار على الرأس بمسدس هو فعل الألمان”.
يأتي فيلم “الطنطورة” بكل شيء، ويأتي بمحاولات يائسة للنفي والإخفاء، يأتي بالمؤسستين الأكاديمية والقضائية المجندة تماماً، التي سحقت بقوة تيدي كاتس الذي كتب تقريراً عن الطنطورة وتمت ملاحقته وإهانته إلى أن اضطر إلى نشر بيان استسلام لم يكن ليخجل مخطوفي “داعش”. من المدهش رؤية آخر الشهود اليهود، في العقد التاسع من حياتهم، وهم يتلوون ويثرثرون وينكرون، إلى أن يعترفوا في النهاية، تقريباً جميعهم، بالمذبحة، حتى ولو بغير اسمها دائماً. استراحة كوميدية يقدمها البروفيسور يوآف غلبر في ظهور مثير للسخرية، يدهش بعرضه المؤسسة الأكاديمية الصهيونية بصورة غير مثقفة ومفترسة إلى درجة الإحراج: فهذا غلبر، وبصورة متغطرسة وهو يقطر منه الرضى عن الذات، لا يصدق الشهود، لا أحد منهم، وغير معني بسماع شهاداتهم، وتعدّ الشهادات بالنسبة له فولكلوراً وليس تاريخاً.
وهذه قاضية متقاعدة تحرص على طرح نفسها كـ”دكتورة درورا بِلبل”، تحمل كلبها الأبيض الصغير على ذراعيها، وتعترف بأنها لم تكلف نفسها عناء الاستماع لشهادات عندما جلست في الدعوى ضد كاتس داخل المحكمة. ثم ساحرات ماكبث، ومجموعة من أعضاء “كيبوتس نحشوليم” المجاور، الذين صرخوا في الجوقة، باستثناء واحد، بأنه لا يجب إقامة نصب تذكاري لمن تم ذبحهم لأنه “إذا كان هذا مهماً لهم فهو سيئ لنا”. شاهدوا “الطنطورة” وانظروا إلى منكري النكبة بكل بؤسهم. شاهدوا “الطنطورة” وانظروا إلى ما حدث في 1948.
تحت المكان الذي اعتاد والدي أن يركن سيارته عندما كنا نسافر إلى شاطئ الطنطورة، غير بعيد عن النصب التذكاري الذي أقيم لذكرى قتلى لواء الكسندروني، كان هناك قبر جماعي، وربما هو موجود حتى الآن. هناك يد شريرة محت ذكره.