نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” مقال رأي للمعلق جيدون رتشمان تحدث فيه عن المخاطر التي تواجه الهيمنة الأمريكية من منظور ثلاث حروب. وقال فيه إن التخطيط العسكري الأمريكي ظل يقوم خلال العقود الماضية على فكرة أن الولايات المتحدة تستطيع خوض حربين في وقت واحد وبمكانين مختلفين في العالم. لكن المخططين الإستراتيجيين الأكثر تشاؤما لم يخططوا أبدا لحروب ثلاث متتابعة وفي أماكن مختلفة من العالم.
إلا أن إدارة جوي بايدن تواجه أزمات قابلة للعسكرة في أوروبا، آسيا والشرق الأوسط، وتشكل معا أكبر تحد للقوة العالمية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة.
وحصل المسؤولون الأمريكيون على إيجازات تتحدث عن خطط روسية لغزو أوكرانيا في “أقرب وقت من عام 2022”. وفي الوقت نفسه، حذر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن من أن المناورات العسكرية الصينية قرب تايوان تبدو وكأنها تدريب على غزو عسكري شامل. وتبدو إيران ليست بعيدة من إنتاج مواد انشطارية كافية لتصنيع السلاح النووي، وهي نتيجة أنفقت الولايات المتحدة عقودا لمنع حدوثها. ويخشى بعض المحللين من مواجهة أمريكا اليوم هجوما دوليا منسقا تقوم به قوى تصحيحية.
وحذر رئيس الوزراء السويدي السابق والدبلوماسي الدولي كارل بيلدت صناع السياسة وطالبهم بالتحضير لغزوات متزامنة لكل من تايوان وأوكرانيا. وعلق قائلا “إن هذين الغزوين يشكلان معا تحولا أساسيا في ميزان القوة العالمية”، مما يعني المسمار الأخير في نعش النظام الدولي الذي كان أساس السلام العالمي لعقود طويلة. ومن غير المحتمل أن يكون هناك تنسيق بين الرئيس الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين لشن حربين في وقت واحد. وتبدو فكرة مؤتمر ثلاثي عبر الفيديو يشارك فيه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وكأنها خارجة من رواية خيالية. وفي الوقت الذي لا توجد فيه خطة واحدة تربط ما بين طموحات العواصم الثلاث: بيجين وموسكو وطهران، لكن هناك مستوى من التحليل المشترك والحذر.
وتشكو حكومات الصين وروسيا وإيران من استهداف أمريكا لها بحملات لـ “تغيير النظام”، وكل دولة لديها طموحها للهيمنة في منطقتها، وكلها تبرر طموحاتها بالرابطة مع الناس خارج حدودها الوطنية. وتؤكد حكومة الرئيس شي على قدر الصين الوطني بـ “الوحدة” بين الأرض الأم واستيعاب تايوان. ويناقش بوتين أن هناك عملية “إبادة” يتعرض لها المتحدثون باللغة الروسية في أوكرانيا، وعلى روسيا واجب حمايتهم. وتزعم إيران أن من واجبها حماية الإسلام واستخدمت المسلمين الشيعة خارج حدودها كجماعات وكيلة.
وتبدو أمريكا بعد الخروج الفوضوي من أفغانستان هذا الصيف، ضعيفة. وهو ما يزيد من محاولات كل من الصين وروسيا وإيران بمعالجة المظالم القديمة أو الدفع قدما لتحقيق الطموحات التي طالما حلمت بها. وستراقب القوى التصحيحية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط عمليات نشر القوات في القارات الأخرى. ولو حدث هجوم على أوكرانيا وتايوان بدون أي مواجهة ومعارضة، فهذا سيعلم تحولا في ميزان القوة الذي يتحدث عنه بيلدت وغيره. ولكن القوة الأمريكية العظمى ومصداقيتها قد تتراجع من خلال سلسلة من التعايش المذهل والتي ستعطي معا إشارة عن تنازل أمريكا. وهناك خوف في أوروبا من حديث بايدن عن التوصل “لتسوية” أمنية مع روسيا في القارة الأوروبية. وفي حالة تقديم الولايات المتحدة تنازلات لروسيا في وجه التهديد الذي تمثله على أوكرانيا، فستتجرأ الصين وتزيد من الضغوط على تايوان وربما ضغطت إيران على الكابح النووي.
وسيقوم حلفاء أمريكا الدوليون، وهم مهمون لها بالتخلي عنها نظرا لفقدانهم الثقة بها. ويعرف البيت الأبيض بهذه المخاطر، كما ويعلم أن عليه اختيار معاركه وإلا بات في خطر تقديم التزامات فوق طاقته. وعليه، فموقف أمريكي قوي في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط قد يساعد على إعادة الردع الأمريكي حول العالم. والسؤال يتعلق بالمكان الذي عليها استعراض عضلاتها فيه.
ويؤشر حجم التهديد للصين، أما ميزان الاستفزاز فيميل لروسيا ويميل ميزان المخاطر الصغير باتجاه إيران التي لم تدخل بعد النادي النووي. ومن الناحية الإستراتيجية تشعر إدارة بايدن أنها مدفوعة بغريزتها للتركيز على الصين باعتبارها التحدي الأبرز للقوة الأمريكية المتفردة في العالم. واقترح بايدن أن أمريكا ستدافع عن تايوان لو تعرضت لهجوم من الصين، لكنه لم يقدم تصريحات مماثلة عن أوكرانيا.
ومع ذلك يعتقد معظم المحللين الأمريكيين أن هجوما على تايوان ليس محتملا في 2022، ذلك أن الرئيس شي يريد استقرارا حتى يعزز سلطته في مؤتمر الحزب الشيوعي المقبل في الخريف المقبل. لكن التهديدات الروسية لأوكرانيا محتملة، إلا أن مواجهة عسكرية مباشرة مع دولة مسلحة نوويا غير محتملة. وبدلا من ذلك هدد بايدن بوتين بعقوبات اقتصادية شديدة لو غزا أوكرانيا التي وعدها بالدعم العسكري، حالة تعرضت للهجوم العسكري.
وضمن هذا السياق، فغارات جوية على المنشآت النووية الإيرانية تبدو أقل خطرا من الاشتباك مع القوات الروسية والصينية. إلا أن بايدن مثل سلفيه باراك أوباما ودونالد ترامب متردد بالتورط في حرب جديدة بالشرق الأوسط. ومن الواضح أن إدارة بايدن لن تسحب خيار العمل العسكري عن أي من النزاعات الثلاثة، لكنها ستعول على الأسلحة الدبلوماسية والاقتصادية، مثل العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران ويمكن استخدامها ضد روسيا والصين حالة حصل الهجوم على تايوان وأوكرانيا. كل هذا لا يعني بداية حرب عالمية ثالثة ولكن نهاية العولمة.