السينما إيقاع الحياة، أنثى الكون التي نعشقها، الربيع بألوانه الزاهية، موسيقى الفصول بتناقضاتها، تبتكر لنا الأفكار كي تهذبنا وتعلمنا كيف نحب ونكره، نثور ونغضب، تطوف بنا في العالم كي نقترب من بعضنا بعضاً، فهي مؤنس وحدتنا في المد والجزر، فما بين البحث عن الحرية والمضي في دروب الحب والتحرر من الأنا، وصراع الرغبة التي تستعبدنا والإبحار في طريق الطهر والاغتسال من المعاصي والبحث عن الله في أعماقنا والتقرب إلى الخالق حباً لا خوفاً، ولد هذا العمل خارج الصندوق متمرداً متحديا الأساليب القديمة في البناء والمضمون، فمنحنا معرفة فكرية وبصرية بنهج مختلف عن السائد، ربما لا يروق للعقول النمطية المتحجرة استيعاب هذا الطراز الفكري العميق وتقديم المتعة والمعرفة في صورة جديدة. فالحياة الروحانية الشفافة والتأملات الفلسفية من الطبيعي أن توسع مداركنا لنبصر الكون بقلوب وعقول متفتحة. فيلم "ماجدة" للمخرج المبدع المفكر "محمود محمود" يمطرنا معرفة ومتعة، ويعلّمنا أن نتخلص من هواجسنا، يخاطب البشرية قائلا: يا أيها الناس، الحب سر الحياة، فتطهروا من الأنا وابحثوا عن المعرفة، وحينها سنتعلم كيف نحب الله ونراه في تصرفاتنا، وكيف نسمو بأرواحنا ونحلّق في عوالمنا الحرة التي لا تخضع لعبودية الرغبة وتسجننا في قفص الملذات.
فيلم "ماجدة" يسرد قصة عاشق فقد معشوقته وقرر أن يتخلص من معاناته فلجأ إلى الحب الإلهي ليتحرر من ضعفه، مستخلصاً تجربة نماذج بشرية، تأملت الكون، فرسمت لنا طريق الخلود الأبدي.
فما بين "ابن عربي" و"ابن الفارض" و"عمر الرافعي" و"محمد الفيتوري" و"كتاب الموت" في العصر الفرعوني مروراً بآخر ما كتب "أبو نُواس" في العصر العباسي، تم حياكة سيناريو عالمي بحرفية عالية يجسد رحلة الوجع وطريق التطهر من الرغبات، مرورا بالانفعالات النفسية وتناقضاتها والشفاء للوصول إلى حالة التجلي والسمو الروحاني.
" فماجدة" التي نستدعيها في الأحلام واليقظة هي الأنثى، الحب، الأصالة والتاريخ، القدس، بوابة السماء، "ماجدة" هي الجمال الذي نبحث عنه، هي كل التأويلات، المربع المفقود في شخصياتنا.
عندما شاهدت الفيلم للمرة الأولى.. وقفت مشدوهاً، فنحن أمام أسلوب غير تقليدي شكلاً ومضموناً. فالنصوص التي بُني منها السيناريو تتناول تجربة إنسانية لمجموعة من المتصوفين أضنتهم الحياة فذاقوا ألوانا من العذاب، لأنهم فكروا خارج الصندوق وحلّقوا بعيدا عن عالمهم، فاتُهموا بالكفر والجهل والزندقة، وأصبحوا سجناء قفص الاتهام، رغم أنهم تحرروا من كل المنغصات وانتصروا لأفكارهم، فمنهم من اتهم بالكفر والإلحاد، ومنهم من اعتزل الناس، ومنهم من أصابه المرض، وعندما تعافي وهب نفسه لمديح الرسول.. ومنهم من تشرد. هذا الفيلم، حطم حدود الزمان والمكان، مزج بين العصور، فما بين العصر الفرعوني و" كتاب الموتى " الذي يوثق لنا التعاويذ التي كانت بمثابة تعليمات إرشادية تمكّن المتوفَى من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادفه في أثناء رحلته من دار الممر إلى دار المستقر، مروراً بالعصر العباسي والقصيدة التي غفرت لكاتبها ذنوبه، والذي رواها صديق أبو نواس عندما شاهده بالمنام بعد موته وأخبره أنه كتب قصيدة وسيجدها تحت وسادة، وهذه القصيدة كانت السبب بأن الله غفر له. نحن أمام عمل تحرر من عقدة الزمان والمكان ولم يفرق بين الأديان، وحّد ما بين فناني الوطن العربي.. مصر، فلسطين، السودان، المغرب.. فكل ما كان يدعو له، أن يتطهر الإنسان من عبودية الرغبة ويبحث عن الحب الرباني الذي سيمنحه الاستقرار النفسي. فقد اعتمد المخرج على اللقطات الثابتة ثلاثية التكوين الجمالي التي تعبر عن مضمون الحدث وجعل الممثل يخرج من الكادر باستثناء لقطات القدس المتحركة، وهذا يدل على أن الناس مجرد عابرين في الحياة وبأن القدس هي طريق المرور بوابة الأرض للسماء، فنشاهد "عابد" بعد شعوره بالضعف والعجز وعدم قدرته على كبح ذنوبه، يحلم "بماجدة " تحمل حقيبتها وتقف في طابور يتجه للقدس، فالحقيبة ترمز لما يحمله المرء من الذنوب، للوصول إلى طريق المنتهى عبر بوابة القدس ، نحن أمام نصوص أسهمت في بناء سيناريو مترابط، متجانس، منسجم رغم اختلاف الكتاب إلا أن هناك روحا واحدة تجمعهم وتعبر عنهم، نحن أمام اوركسترا موسيقية تعزف لحنا جميلا يقودها مايسترو يحرك مشاعر البشرية، يحلق بنا في عالم من الجمال والحب الإلهي. نحن نبحر في وجع أناس أحبوا الله فأحبهم، نظروا للحياة بأسلوب مختلف فاتُهموا بالكفر والإلحاد والزندقة، استطاع المخرج بعبقريته أن ينسج قصته من نصوص تهذب المشاعر تشد بعضها بعضاً، ويقدم لنا وحدة متكاملة تحاكي تجربة المتصوفين وزهدهم وعزلتهم والطريق الوعر التي يسلكونها في الحياة، حتى يسمُوا فوق أناهم ويتحولوا طيورا تحلق في سماء الحب الروحاني.
فاختيار المخرج السيناريست لشعر "ابن عربي "، الفيلسوف الذي رأي أن جوهر الله كامن بوجود الإنسان فاتهم بالكفر والزندقة والإلحاد ولقبه أتباعه "بالشيخ الأكبر "، فبعد المشهد الأول و حركة الكاميرا على المسجد الأقصى نصغي للفنان "حسين نخلة "وهو يردد " ما أحببتك وحدي ، لكن أحببتك وحدك "، ثم نشاهد "أنس" يجسد شخصية الملاك بردائه الأبيض وبأسلوبه المتزن ، ينظر من خلف جدار أبيض لمصدر الصوت وبحركات إيمائية برأسه يوحي للمشاهد أنه يشفق على من يبصره . بعد ذلك، يردد الفنان حسين نخله " لا أهل ولا وطن "، وهنا يستعرض المخرج حياة المتصوفين من خلال رجل متصوف يلبس رداء أبيض مستلقياً على الأرض وحيداً مشرداً ويأتي آخر، يجلس بالقرب منه ويشاركه الألم. يكرر الفنان حسين جملة " لا أهل ولا وطن"، ليقول للمشاهد منذ اللحظة الأولى إننا أمام أناس معجونين بالوجع، اعتزلوا الكون والآن يعيشون الزهد ويهيمون في عشق الإله بعد أن تطهروا من رغباتهم وعاشوا قسوة الحياة، بحركاته الإيمائية وبانفعالات داخلية، يبحر بنا الفنان القدير المتمكن حسين نخلة، ليعبر لنا من خلال لغة الجسد وبأداء راقي وعميق عن عالم النقاء والطهر والصفاء ويواصل تجسيد روايته بالإيماء على صوت المنشد المتألق وهو يشدو لنا نص ابن الفارض " سلطان العاشقين " الذي ينبع حبا ويسمو فوق ملذات الحياة. فبعد اعتزاله البشر خمسة عشر عاماً متأملاً ملكوت الله، كتب أشعاراً معظمها في العشق الإلهي حتى لقب "بسلطان العاشقين ".
يتألق الفنان المبدع "حسين نخله" وهو يجسد تجربة التصوف.. فيعبر عن مشاعر المتصوفين حتى يتماهى مع الشخصية ويجسد لنا تجربة الإنسان ، يتمرد من خلالها على نزواته، ويعيش حالة حب إلهي، فهو يرى الله في كل جميل، فيتجلى بالتعبير عن النص، هم علموني البُكا ما كٌنت أعرِفه،" أثناء النص نشاهد لقطة عامة لكثبان رملية تستحل ثلت الكادر، تسير عليه فتاة ترتدي رداء أسود، يحتل زرقة السماء باقي الكادر، تواصل الفتاة سيرها فوق الكثبان الرميلة بطريقة مستوية وتترك خلفها أثار أقدامها وكأنها تسير على الصراط المستقيم، لتفصل ما بين الحق والباطل، وتواصل سيرها إلى أن تصل لنص "يا ليتهم علموني كيف ابتسم"، وكأنه يريد القول بأن كل من حولك يصب عليك الوجع، وأنت مجرد فكرة في كون كبير ،فعليك أن تبتعد عن عشق البشر، وبانسيابيه ينتقل السيناريست لقصيدة" شحبت روحي" والتي كتبها الشاعر الليبي السوداني المشرد "محمد الفيتوري" بعد نكسة سبعة وستين. الفيتوري عانى من ظروف العبودية التي أبصرها منذ نعومة أظفاره، فكتب عن الحرية والانعتاق ومناهضة القيود والاستبداد. وعندما عاش الغربة في المجتمعات التي انتمى إليها، قرر الفرار من العالم المادي للعالم الروحاني، حيث اعتمد المخرج على لقطات عامة ثابتة متنوعة للتعبير عن مشاهد المعاناة والبحث. وهذه المَشاهد تم صناعتها بصرياً بحرفية عالية حيث تظهر طبيعة المكان والطريق الوعرة التي يسلكها المتصوفون وبأسلوب بصري تعبيري ثلاثي الأبعاد جسد لوحات تجسد الفكرة شكلاً ومضموناً.
وعندما انتقل إلى اللقطة المتوسطة المكونة من أشجار زيتون وحجارة تدل على وعورة الطريق ومرور الفنان " حسين نخلة " من أمامها، يدل على أنه يمضي إلى الاستقرار النفسي.
فقصيدة الفيتوري "شحبت روحي، صارت سفقاً شعت غيماً وسنا كالدرويش المتعلق في قدمي مولاه وأنا اتمرغ في شجني". عبّر النص عن حالة التشرد فنصغي لحديث الفنان المبدع "حسين نخلة " وهو يقول: قالوا لي لا تلتفت إلى الطريق ولكنني لا أستطيع السير، رأيتك منذ سنوات في المنام في مصر وفي العراق وفي سوريا ولم أجدك، أين أنت الآن بل أين أنا الآن؟ ثم يصرخ: "ماجدة، ماجدة!”. نحن أمام حكاية عاشق يبحث عن مكنون قلبه، اتهم بكل الموبقات، فقرر اعتزال البشر ولجأ إلى خالق المحبة وبدأ يسرد رحلة الشتات والوجع في رحلته في البحث عن الحب والأصالة، وعن جمال الإنسانية المفقودة.
اعتمد المخرج في بناء فيلمه على المونتاج المتوازي.. الخط الأول استطاع أن يسرد من خلال النصوص قصة البحث عن العشق والمعاناة والرغبة بالتحرر بكل ما يستعبد الإنسان من نزوات،
وفي الخط الثاني صنع من النصوص قصة بصرية ترصد صراعاً بين شخصية الفنان " حسين نخلة " التي تطهرت من نزواتها واقتربت من خالقها حباً لا خوفاً، وشخصية " عابد" التي تحاول السمو للعشق الإلهي، ولكنها ضعيفة أمام رغباتها، لذا تفشل في محاولاتها. فعابد الذي يعيش حالة تناقض بين محاولاته المتكررة لم يتخلص من العشق الإنساني الذي يطارده في الواقع والأحلام، فأصابه الإحباط والفشل.. فنراه في أول ظهور له بطرف الكادر يتحدث مع الشخصية التي تجسد الملاك " أنس ".. عابد: أنت عارف يعني إيه أحب واحدة في أحلامي وألتقي فيها وأعترف لها في حبي ومش تصدقني، يا أنس أنا مش عارف أفرق بين الحلم والحقيقة، فيرد عليه أنس: " الحياة مغامرة يا عابد والمغامرة تحتاج للقوة لاتخاذ القرار.."، وبهذه الجملة يقدم لنا الكاتب مفاتيح شخصية عابد المستسلمة.
يختفي عابد بعد أن يرن الجرس.. شخصان يمثلان الشياطين الذين يتحكمون بمصير ضعفاء الحياة، يحاصرانه ويدور حوار بينه وبين الرجل الذي يجسد الروبوت وكيف يتحكمون بمصائر الشعوب، بالطعام والشراب والفيروسات والشهوات والزواج وبكل خطوة يخطوها الإنسان.
فيسألهم عابد: " طب إيه المقابل إنه أنا عابد أكون معاكم وايش معنى أنا بالذات ".
فيرد عليه الشيطان الروبوت " إحنا متأكدين إنك حتعمل كده، إحنا إلنا أسبابنا الخاصة في الاختيار "، فيرد عابد عليه "بأن الله صاحب القرار "، فيسخرون منه.. "وإحنا علينا أن نختار، إحنا كمان نقدر نتحكم بالأحلام إذا كنت صاحي أو نائم ". يشعر عابد بضعفه وبأنه غير قادر على التخلص من رغباته وينفجر باكياً وهنا تتضح صورة الشياطين والصراع بينهم وبين الإنسان عندما يقولون " بتعرف مشكلة الإنسان في الحياة أنه بفكرها مِلْكه بس لا هي مِلكنا ولا مِلكه، عشان هيك لازم نستمر للنهاية.. يكررون، "لازم نستمر حتى النهاية". يواصلون التكرار حتى يختفوا في العتمة، بعد ذلك نعود إلى الفنان "حسين نخلة "وهو خاشع خاضع مستسلم يتلو نصوصا من كتاب الموتى لدى الفراعنة... " السلام عليك أيها الإله الأعظم.. إله الحق. لقد جئتك يا إلهي خاضعاً.. حتى نهاية النص وقول: أنا طاهر، طاهر. وما دمتُ بريئا من الإثم، فاجعلني يا إلهي من الفائزين"، ثم يحني رأسه خانعاً مستسلماً.
نعود لعابد وهو جالس وحيدا يعيش حالة تناقض بين ما يرغب أن يصل إليه وبين قدراته على التحمل، إلى أن يأتي "أنس" دون أن يشعر به وينادي عليه.. "عابد، يا عابد، حب البشر نهايته ظلام،" ويدور حوار بينهما عن حبيبته التي فقدها، "عابد.. ريحني يا أنس، أنت بتعرف حاجة عن ماجدة والأحلام؟ أنس.." المعرفة من المحبة ومحدش عارف فين الحلم وفين الحقيقة". وهذه رسالة أيضا، عندما نصل للمحبة المطلقة يستقيم الكون.
عابد: "مرات كتير مكنتش قادر أفرق بين الحلم والحقيقة، وفي يوم شفتها في بيت كبير وناس كتير، وفجأة نده عليها سيدنا الحسين وأعطاها شنطة كبيرة وطلب منها تفضل ماشية وراء الناس في نفس الطابور وما تخرج من الطابور، وبعدين شفت القدس وقتيها ما كنتش قادر أعرف أني صاحي ولا بحلم باليوم دا، وفجأة سمعت صوتها وهي بتقول" ما أحببتك وحدي لكن أحببتك وحدك".
يكررها عابد و"أنس" يتجلى ويهز رأسه طرباً "الله الله يا عابد". تفسير الحلم.. تدل الحقيبة على ما يحمله المرء من ذنوب وإفراغ حمله قبل لقاء الله ومحاسبته والطوابير التي تتجه إلى القدس، بوابة السماء رمز الانتقال من الحياة إلى الخلود عبر هذه الأرض المقدسة وبعد هذا النص، نرى عابد يمر بين الطرق الوعرة الشاقة يحمل قفصاً ليحرر العصفور، أي يحرر نفسه من ذنوبه ومن نزواته التي تسيطر عليه والوصول إلى دروب التصوف. ولأن طريق الحب صعب شاق، يحتاج لأنقياء ومجهود كبير، فنراه يخلع نعليه ويمر بالوادي، تيمنا " بالنبي موسى عليه السلام " بالوادي المقدس طوى “. ترصد الكاميرا عابد وهو يسير ويرافقه، نص مضمونه أن الحقيقة الوحيدة في هذا الكون هي الموت وبأن موسى عليه السلام أخبره أن يبتعد عن حب البشر، فالحب المتمثل بماجدة الأنثى أو ماجدة الوطن يحتاج لطريق الصعاب حتى نصل إلى الصفاء و نتجرد من نزواتنا، "فماجدة" الحب ، في كل مكان، فأمامك المعرفة ، السماء والأرض، أمامك عالم من الجمال إن أبصرته ونظرت ما بعد البعد ،ستحقق كل ما تصبو إليه. "يا عابد، جنة العاشقين ليست في الأرض ".
وما دمت قادراً على أن تسلك طريق الحب فلا تخشَ من البشر، فالله غفور رحيم، فما عليك إلا أن تقرر وتمضي.. فيرصد المخرج حركة عابد وهو يحاول ويحاول، ترافقه قصيدة أبو نواس التي تعبر عن شعوره بالذنوب وطلب المغفرة من الخالق الرحيم، والذي يقول في كتابه العزيز، " إني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ". ربِ إن عظمتْ ذنوبي وكثرت، فلقد علمت بأن عفوك أعظم، إن كان لا يرجوك إلا محسن، فبمن يلوذ ويستجير المجرم".. إلى نهاية النص.
يواصل سيره بأرض وعرة ويحاول أن يتسلق الصعاب أثناء القصيدة ثم تتحرك الكاميرا حتى تصل إلى القدس، بعد ذلك نشاهده يتقدم وينظر إلى البحر وأمامه مساحات من الفضاء ليقول بعد أن تتخلص من ذنوبك وتتحرر من عبوديتك للأشياء، وحينها ستشعر بالصفاء وستصل إلى القدس بوابة السماء صفحة بيضاء. في هذا الفيلم السينمائي ينتصر المخرج للنقاء النفسي و يعيد لنا صورتنا المسروقة ويطهرنا من رواسب الأحقاد التي امتصت ملامحنا ووهبتنا مسخاً يسكننا حتى أصبحنا ندور في دائرة مغلقة تخربش الجمال الذي كان يسكننا، فالإنسان يحتاج أن يعود لمرحلة الولادة والنقاء، نحتاج الصفحة البيضاء التي تطهر العالم من الرواسب السوداء.
فيلم "ماجدة" شجرة خصبة تمطر جمالاً، بداية من السيناريو المترابط وعبقرية الكاتب،
مروراً بحرفية مدير التصوير "تامر رضوان" الذي جسد لوحات تعبيرية ثلاثية الأبعاد تحمل مضامين فنية تعبر عن تطور الحالة النفسية. جسدها طاقم العمل حيث عبر عن الانفعالات النفسية الداخلية بما يلائم تطور الحدث مروراً بالفنان القدير حسين نخلة الذي جسد شخصية المتصوف بتلقائيتها ومشاعرها الداخلية حتى عاشت مع "ابن عربي "و"ابن الفارض" وتشردت مع الفيتوري وعاشت مع الفراعنة لحظة الاعتراف والبحث عن طريق الخلاص، والفنان" أبا نوب عزت" الذي أشعرنا بأننا أمام رجل روبوت بجموده يخاطب العالم كي يأسره تحت قبعته وشاركه الفنان" أحمد المحمدي" بانفعالات مختلفة وكأننا أمام ذئب يريد افتراس ضحيته، فهو بالنسبة له رقم ساقط.
كما أبدع الفنان الحكيم الرزين “حسام بسطاُويسي " بدور أنسى الملاك الذي أسرنا بجمال الأداء الهادئ “، واستطاع الفنان يوسف العابد أن يعبر عن الانفعالات الزائدة والانهيار النفسي لشخصية المستضعفين في الأرض بشكل جيد. يتدفق الفيلم بالمشاعر الإنسانية التي كان ينثرها المنشد وروداً وتعبر عن جماليات الخط الدرامي للعمل، فصوته الجذاب حلّق بالمُشاهد بعيدا إلى عالم الجمال. فالعناصر تشد بعضها بعضاً من خلال مخرج امتلك أدواته واستطاع أن يحرك خيوطه، بحرفية عالية ورشاقة، ورسم ميزاناً وإيقاعاً متناقضاَ بين الشخصيات المختلفة، أسهمت في جذب المشاهد من خلال خط درامي واضح الملامح مبهر. حيث قدّم لنا معالجة فنية تسير بانسيابية تعتمد على المشاعر الداخلية والتناقض والتضاد بين الشخصيات. كما أبدع بصناعة مشاهد تعبيرية، نموذج لذلك مشهد الرجل الروبوت ومرافقه المشهد، هناك إبداع في اختيار وقت التصوير وفي صناعة تكوين الكادر حيث نرى أشخاصاً في الظلام وجوههم معتمة وخلفهم جبل أسود وجزء من سماء منيرة للتعبير عن إغوائهم لضحاياهم، والسماء المضيء تعبر عن فسحة الأمل التي تنتظر من تخلص من نزواته. كما اعتمد المخرج على خليط من اللقطات، ما بين اللقطة العامة جداً، واللقطة العامة، واللقطة العامة المتوسطة للتعبير عن عمق الحدث وتفاصيل التفاصيل لحياة المتصوفين، وكأن الإنسان مجرد حالة عابرة في منظومة متكاملة ثابتة، ويوماً ما ستأتي النهايات ويمر من بوابة السماء "القدس" ويرحل إلى العالم الآخر.
وفي نهاية الأمر نحن أمام عمل فني بنكهة إنسانية عالمية يستحق أكثر من قراءة.