يديعوت - بقلم: رونين بيرغمان "على طاولة المفاوضات في فيينا أكثر بكثير من مستقبل المشروع النووي الإيراني، فمعظم المشاركين يدركون أن الاتفاق لو وقع، فسيكون ذا تأثير محدود عليه. ستتضح الدبلوماسية بين السطور هذا الأسبوع، وستبرز من خلف الابتسامات حقائق واسعة وأكثر جوهرية على العلاقات بين إيران والولايات المتحدة وبين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى سلم أولويات إدارة بايدن والمستقبل الأمريكي في الشرق الأوسط، وأساساً، على استمرار مكانة الولايات المتحدة اللاعب الدولي المركزي وقدرته على الإبقاء على قوة ردعه.
إن العودة إلى المفاوضات جزء من الصراع بين مؤيدي النهج الصقري في إدارة ترامب ونتنياهو، ممن يؤمنون بأنه لا يمكن لجم لاعب منفلت العقال كإيران إلا بالقوة، بما في ذلك العمليات السرية، والعدوانية والعقوبات، وبين أولئك الذين يتبنون نهجاً دبلوماسياً في إدارتي أوباما وبايدن، ممن يعتقدون بأن القوة لن تؤدي إلا إلى مزيد من القوة – ولن تخضع إيران. وحسب هذا النهج، فإن الطريق المفضل، الوحيد عملياً، هو طريق الحوار، الحلول الوسط والاتفاقات- وبهذا سيكون ممكناً وقف السباق الإيراني إلى القنبلة، بل واقتيادها، مثلما يـأمل وزير الخارجية الأسبق جون كيري، عائدة إلى حضن أسرة الشعوب.
من يقرأ بداية الوثيقة المعنونة “الأهداف المركزية لـ “Centcom“، قيادة المنطقة الوسطى الأمريكية، كفيل بأن يتساءل: لماذا تأتي الولايات المتحدة إلى فيينا؟ تبث الوثيقة تصميماً وتصلباً وتحدد بشكل واضح بأن الهدف الأساس لـ الـ 300 ألف جندي أمريكي بقيادة المنطقة الوسطى هو “ردع إيران”، كون النظام الإيراني “يضعضع الاستقرار ويتسبب بالتصعيد” في المنطقة. بتعبير آخر: قيادة المنطقة الوسطى الأمريكية تستعد للحرب مع إيران.
قبل سنتين كان قائد المنطقة الجنرال الكبير فرانك مكنزي، بين أولئك الذين أثروا على الرئيس ترامب لاغتيال قاسم سليماني، رجل العمليات الإيراني الكبير. أوصى مكنزي فور ذلك بضم إسرائيل إلى قيادة المنطقة الوسطى – خطوة أعطت ثمارها في كانون الثاني الماضي. قبل نحو شهر، وصل إلى القيادة أيضاً المندوب الدائم عن الجيش الإسرائيلي. وبهدف لجم إيران، وعدت إدارة أوباما إسرائيل بأن قيادة المنطقة الوسطى ستهاجم إيران إذا ما فشلت كل الجهود. بل إن وزير الدفاع عرض أمام نظيره في حينه إيهود باراك، توثيقاً مبهراً بالفيديو لقذائف خارقة للخنادق تم تطويرها خصيصاً ضد إيران، لتدمير الأنفاق التي حفرت في الجبال في صحراء نفادا، تصوير محاكاة للمنشآت الإيرانية. في 2015 وقعت الولايات المتحدة على الاتفاق النووي، لإيمان زعمائها بأن بوسعه أن يعفيهم من هذا الهجوم. كانت له فضائل: فقد فكك تماماً مياه المفاعل الثقيلة في أراك، أغلق عملياً الجهد الإيراني لإنتاج قنبلة بلوتونيوم، وأدى إلى تفكيك أجزاء كبيرة من البنية التحتية النووية لإيران والمادة التي تحت تصرفها. بتعبير آخر: جمد المشروع النووي وألزم إيران برقابة دائمة.
لكنه أيضاً كان مليئاً بالثقوب: فترة محدودة تلتزم فيها إيران بالاتفاق؛ وآلية رقابة كان واضحاً منذ البداية أنها ستكون صعبة على الإنفاذ؛ وعدم التدمير بل الاكتفاء بتفكيك جزء من العتاد؛ وعدم التزام إيران بوقف التطوير العلمي. القوى العظمى “قبلت” الادعاء الإيراني بأنها لم تحاول تطوير قنبلة نووية، ناهيك عن عدم وقف مشروع الصواريخ وبلا أي كلمة عن دعمها للإرهاب.
لقد أثبتت التطورات التاريخية منذ التوقيع على الاتفاق العكس: نفذت إيران الاتفاق حتى 2018، إلى هذا الحد أو ذاك، وفككت ما وعدت بتفكيكه، وراكمت حتى 300 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بدرجة متدنية. في 2018 سرق الموساد الأرشيف النووي الذي أثبت بأن إيران كذبت بشكل فظ بل وجربت، إن لم تكن تجرب تطوير قنبلة كل الوقت. “عرفنا أنهم يكذبون وكان لهم مشروع عسكري في الماضي”، سيقول جون كيري لاحقاً، “لكننا عرفنا بأنهم لن يعترفوا بهذا، ولو أصررنا لما كان اتفاق”.
أما نتنياهو ففكر بشكل مختلف واستخدم وثائق الأرشيف لإقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاق. وأدى الانسحاب إلى انسحاب إيراني جزئي وإلى تحريك للمشروع النووي بوتيرة معززة: مزيداً من التخصيب، مزيداً من أجهزة الطرد المركزي المتطورة، ومزيداً من المادة المشعة.
وبزعم مؤيدي الاتفاق “الجديد”: أثبت الاتفاق القديم نفسه بأنه أوقف طريق إيران إلى القنبلة، وحققت فعلة ترامب -بتشجيع من إسرائيل بالضبط- العكس؛ فإيران اليوم في حالة متطورة أكثر مما كانت في يوم الانسحاب. وبزعم معارضي الاتفاق: نجحت إيران في تحريك ونصب أجهزة طرد مركزي حديثة، ما يثبت بأن كل الاتفاق لا يقوم إلا على أساس النية الطيبة لنظام آية الله، وليس على فرض قدرته على التقدم نحو سلاح يوم الدين. بمعنى أن الاتفاق لا يساوي الورق الذي وقع عليه.
حقيقة أن إدارة بايدن تريد الاتفاق، وأن الإيرانيين يلعبونها وكأنهم صعبو المنال، دليل على ضعف الولايات المتحدة وفقدانها لقدرة ردعها. وحقيقة أن أمريكا الكبرى بحاجة إلى إخطار من الاستخبارات الإسرائيلية كي تخلي جنودها من قاعدة في سوريا خوفاً من المُسيرات الإيرانية التي قصفتها الشهر الماضي أو أنه رغم معرفتها بوقوف إيران خلف الهجوم الخطير دون فعل شيء، هو دليل آخر على غروب نجم الولايات المتحدة.
لكن الاتفاق، بقدر ما يتعلق بالولايات المتحدة وبأوروبا، هو موضوع منتهٍ: السؤال المحرج المتبقي: هل ستكون إيران مطالبة بالعودة إلى النقطة التي كانت فيها عشية الاتفاق السابق، أم سيجرى الحديث عن “تجميد الوضع القائم”، الذي تعبر فيه عن إنجازات تطويرها منذ الانسحاب؟ أما الدول الأوروبية، وبشكل غريب، فهي التي تتخذ في هذا الموضوع نهجاً أكثر تصلباً تجاه إيران.
مصير العقوبات على جدول الأعمال: العقوبات والقيود التي فرضت على إيران على مدى عقود ألحقت ضرراً كبيراً للنظام وللدولة. السؤال المحرج هو: هل سترفع، وبأي قدر وكم ستصر الإدارة على فرضها؟ يتشكل انطباع لدى إسرائيل بأنه الأمر غير المكتوب في وزارة الخارجية هو ألا يسار إلى إبداء دافعية زائدة في موضوع العقوبات. والتقدير أن التاريخ يتكرر: كل من عني بموضوع الاتفاق النووي في إسرائيل والولايات المتحدة في 2015 عاد ليعالجه الآن. وكلهم ارتفعوا درجة: بايدن أصبح رئيساً، بارنس رئيساً للسي.اي.ايه، وبلينكن وزيراً للخارجية، وكوهن أصبح رئيس الموساد. أما إحلال ببينيت بدل نتنياهو، فقد خرق هذه الصورة، ولكنه لم يغير في واقع الأمر شيئاً في المعارضة الإسرائيلية. فور قيام إدارة بايدن، أعلنت بأنها تريد العودة إلى الاتفاق. وهذا الأمر نبع من رغبة في شطب تراث ترامب. في نظر الكثيرين في الإدارة الحالية: كل ما فعلته إسرائيل في تلك الفترة بالتعاون مع الولايات المتحدة مصاب بـ “سم” ترامب، وعليه فينبغي التخلص منه. هذا الفكر، ولعله حتى أكثر من كل اتفاق مع إيران، هو الذي ينبغي أن يقلق إسرائيل.