معاريف - بقلم: ألون بن دافيد " في ظل ما يحوم حولنا من أحداث دراماتيكية زائفة يصعب علينا رؤية الدراما الحقيقية والكبرى التي تجري حولنا: مناورة بحرية مشتركة لإسرائيل مع البحرين والإمارات، مناورة جوية في إسرائيل بُلغ فيها أيضاً عن مشاركة الأردن وزيارة علنية لقائد سلاح الجو الإسرائيلي ببزته العسكرية، في الإمارات. لعلنا كنا ذات مرة نسمي هذا “حلم الآخرة”، ولكن حتى لو تواضعنا، فهذا لا يقل عن تحقق شرق أوسط جديد. فهذه الصور أقوى من أي تهديد صاخب على إيران. ينظر الإيرانيون بعيون تعبة إلى هبوط قائد سلاح الجو الإسرائيلي في الإمارات، ويفهمون أن طائرات قتالية ستهبط هناك في المرة القادمة. ولئن كانت سفن قتالية لدول الخليج تظهر في المعركة الأولى في البحر الأحمر، ففي المعركة التالية هذه ستكون هناك سفن إسرائيلية تتدرب في الخليج الفارسي. وهذا بات يقض مضاجع الإيرانيين.
لا تكتفي إسرائيل بالمناورات المشتركة، وتحاول بكل سبيل ممكن بث قوة لتغطي على ما تبثه أمريكا من ضعف في المنطقة. فقد نشر الجيش الإسرائيلي على الملأ في الأسبوعين الأخيرين مناورات الفرقة العسكرية التي أجراها في الشمال واستغل الأيام ما قبل ظهور سحب المطر لسلسلة هجمات مكثفة في سوريا، حسب منشورات. في الأسابيع القريبة القادمة، سنسمع أيضاً أكثر عن تسريع إعداد سلاح الجو لهجوم مستقبلي في إيران.
واضح للمنطقة كلها بأن إدارة بايدن سند متهالك حيال إيران، وحتى المبعوثين اللذين زارا هنا هذا الأسبوع (مبعوث الشؤون الإيرانية روب مالي، والسفيرة في الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفلد) لم يجلبا معهما بشرى مشجعة. فمخلصان للخط الأمريكي المنبطح كانا مستعدين في أقصى الأحوال ليقولا بوجود خيارات أخرى. لكن لا تزال الدبلوماسية هي الخيار المخطط. بعد عشرة أيام، ستمتثل إيران إلى المفاوضات المتجددة على الاتفاق النووي، وسيجلس أمامها مندوبون أمريكيون متحمسون لعقد صفقة والرحيل إلى الديار.
إيران ستذيب هذه المفاوضات وستحاول إرجاءها قدر المستطاع، فيما أنها تجمع في هذه الأثناء المزيد من القدرات النووية. ستلوح إسرائيل في الخلفية بالخيار العسكري (والمحدود) خاصتها، وستحاول تثبيت التحالفات الإقليمية، فالسعوديين قد يفاجئوا وينضموا علناً إلى المنظومة الإقليمية.
لكن وبينما يرتاح الإيرانيون للضعف الأمريكي، فإنهم يلاقون معارضة آخذة في التعاظم ضدهم في المنطقة. بعد سنتين من تصفية قاسم سليماني المباركة، بات المحور الإيراني في تراجع، بدءاً من المعارضة الشيعية الشجاعة التي قامت ضده في العراق، مروراً بالرئيس السوري الأسد الذي يسحب البساط من تحت أقدامهم في بلاده بالتدريج، وحتى لبنان الذي يشهد الآن الأزمة الأخطر له منذ نشوب الحرب الأهلية قبل 45 سنة. في جولة تحليق فوق حدود الشمال في ساعات الليل، يسهل على المرء أن يميز أين يمر خط الحدود: من جنوب إسرائيل مضاء، ومن شمال لبنان الغارق في ظلام دامس. في الماضي، كانت الأضواء تطل في استحكامات “حزب الله” التي توفرها المولدات. أما اليوم، فحتى “حزب الله” بات يطفئ الأضواء في وقت مبكر توفيراً للسولار الباهظ. في الشرق الأوسط الجديد حتى غزة تنجح في توفير كهرباء أكثر لمواطنيها قياساً مع لبنان.
على طول الجدار، تصعب ملاحظة الدوريات المؤللة لـ”حزب الله”، التي تقلصت جراء نقص الوقود. في القرية الشيعة “كيلا”، الملاصقة للمطلة، يمكن اليوم رؤية ظاهرة لم يسبق لنا أن رأيناها منذ زمن بعيد: بيوت استبدلت بعلم “حزب الله” الحزب الشيعي المنافس “أمل”.
لبنان كله يغرق في يأس عميق، عابر للطوائف والطبقات الاجتماعية، مع إدراك بأن لا دولة تنقذهم من الانهيار الذي يعيشونه. في هذا الواقع، يفقد “حزب الله” القاعدة الاقتصادية والاجتماعية بل والأيديولوجية لمكانته كدرع لبنان. المزيد والمزيد من اللبنانيين، بمن فيهم أولئك الذين صوتوا لـ”حزب الله” في الانتخابات، يسألون أنفسهم عن غاية التنظيم الذي يدعي حماية دولتهم ثم يقودها إلى التفكك.
لن يكرر أحد في الجيش الإسرائيلي القول بصوت عال إن “الصواريخ ستصدأ”، ولكن هناك من يقول بهدوء إننا في مسيرة تذكر بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. القوة الاقتصادية الأمريكية في مواجهة الاقتصاد السوفييتي المنهار، أدت إلى انتصار أمريكا في الحرب دون أن تطلق رصاصة واحدة. هنا أيضاً، من جهة اقتصاد إسرائيلي متفجر في الأشهر الأخيرة إلى ازدهار مبارك، وفي المقابل دولة مع اقتصاد منهار سيسحب الأرضية التي يقف عليها “حزب الله”.
كخطوة أولى في مواجهة فوضى لبنان، إسرائيل ملزمة بتحصين حدود الشمال. فاليوم لا يفصل بين إسرائيل وآلاف الإرهابيين وملايين اليائسين في لبنان سوى سياج قصير، بني بعضه في السبعينيات من القرن الماضي. 22 بلدة إسرائيلية تقع تماماً ملاصقة للسياج الصدئ هذا. وفي الأسابيع القريبة القادمة ستبدأ الاشغال في باقي الجبهة أيضاً. وثمة تطلع لاستكمال تحصين الحدود كلها بجدار قوي ومتطور في غضون ثلاث سنوات.
قد يجد لبنان نفسه في حرب أهلية متجددة، وذات تأثير على إسرائيل. وعليه، فإن هذه اللحظة المناسبة يجب أن تستغل لمواصلة ضرب المحور الإيراني، وترسيخ التحالفات الإقليمية، وكذا لحوار غير مباشر مع الأسد الذي مل الوجود الإيراني والثمن الذي يدفعه عليه. اللحظة المناسبة ليست طويلة: ففي اللحظة التي يوقع فيها اتفاق نووي ويصعد الاقتصاد الإيراني، سيبدأ مال إيراني في التدفق إلى سوريا ولبنان والعراق وغزة، وسينقلب الميل.