ثمة استرخاء يتراكم مثل غبار موسم خماسين طويل على شوارع المدينة، العواصف التي هبت بقوة في السنتين الماضيتين هبطت على الأرض وهي تواصل تنفسها البطيء، يمكن سماع حركتها الخفية وتلمس الغضب الممزوج باليأس الذي يسعى في اثرها، المصائر التي وصلت غاياتها تهجع مثل أغصان قصفتها رياح نافذة الصبر، جلاس المقهى في رام الله التحتا عثروا على زمن آخر لتفتيش حقائبه والجدال حول حمولاته، ولكنهم واصلوا ظهورهم من زوايا الشارع والتوجه نحو الموائد المتروكة منذ الليلة السابقة.
هنا يمكن أن تحصل على حقائق تسببت في كل هذا، تواريخ وأحداث وسير حقيقية لأشخاص نقلوا أمتعتهم على بعد شارعين، بعد أن بدلوا ذاكرتهم، ولكن حقائقهم الصغيرة تتجول هنا عارية ومكشوفة كما هي دون تبديل، مثل مصير حاسم لا يمكن الخلاص منه.
لم يصعد أحمد يعقوب من شارع السهل بقبعته الإسبانية ومشيته المتمهلة منذ توفي بسبب خديعة في قلبه قبل أسابيع، ولكنهم وضعوا بورتريه له، كان سيحبه، أعلى الرف داخل المقهى بمواجهة الباب بحيث يمكن للداخل مشاهدته، ويمكن لصياح لاعبي الورق وضربات النرد أن تصل إليه، رغم أنه كان يفضل الشطرنج التي لا يصيح فيها اللاعبون، بورتريه مأخوذ من صورة حديثة ينظر فيها خارج الإطار وفوق الموائد واللاعبين.
منذ وقت طويل يواصل موسم الغبار مروره فوق المدينة مثل قطار يجر عربات لا نهاية لها، كما لو أنها تصعد من العتمة وتذهب إلى العتمة، منذ وقت يصعب تذكره يصل صفير القطار وتتكرر قرقعة العربات ولا تتوقف.
الأحاديث التي تنشأ من الجلوس، أو من ملاحظة غير مقصودة أو من نميمة بيضاء في الغالب، تواصل عملها بدأب.
ثمة أحاديث كثيرة رحلت تكسر وقتها ونسلت خيوطها، أحاديث فقدت أسباب الحياة وتركت ثغرات واسعة في بساط الجلسات، أحاديث ماتت بهدوء بعد أن استنفدها الجالسون، وحملوها رغباتهم وأحلامهم ومآسيهم الصغيرة.
ثم يترك الغبار طبقة خفيفة على الرصيف والموائد وأكتافنا، نحن الرواد الذين نسوا طرقهم إلى البيت.