أكد الباحث شير هيفر في تقرير في موقع “ميدل إيست آي” البريطاني أن فضيحة “بيغاسوس” كشفت ثغرات واضحة في قصة “نجاح” الأمن السيبيراني في إسرائيل وتفوقها في القطاع.
وأشار إلى أن ما تم كشفه عن مدى الاختراق الذي يتم عبر استخدام برنامج التجسس بيغاسوس من إنتاج مجموعة “إن إس أو” أشعل جدلاً شديداً في إسرائيل وفي الخارج حول الطريقة التي يعمل بها قطاع الأمن السيبراني الذي تتباهى به البلد.
وينوه إلى أنه طالما تمكنت الشركات الإسرائيلية العاملة في القطاع السيبراني من الحفاظ على علامات تجارية قوية بسبب ما لأجهزة المخابرات الإسرائيلية من سمعة في هذا المجال، وخاصة الموساد ووحدة 8200 العسكرية المتخصصة في الاستخبارات، وما يعرف عن قدرة هذه الشركات على تجنيد الخريجين من هذه الأجهزة الأمنية وضمهم إلى صفوف العاملين فيها.
ويقول الكاتب إن أحد جوانب هذا القطاع التي لا تحظى بكثير من النقاش هو ما إذا كان القطاع ناجحاً مالياً. وأشار إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو، كان قد تكلم مراراً عن التكنولوجيا السيبرانية باعتبارها حجر الزاوية في قطاع التكنولوجيا المتطورة في إسرائيل وفي الاقتصاد بشكل عام، إلا أن صحيفة “هآرتس” وجدت أدلة كثيرة تفيد بأن تكنولوجيا الحرب السيبرانية الإسرائيلية، وخاصة “إن إس أو”، لعبت دوراً رئيسياً في سياسة نتنياهو الخارجية.
وذكرت أن الدول التي زارها نتنياهو، بما في ذلك المجر والهند ورواندا والإمارات العربية المتحدة وغيرها، أبرمت صفقات مع “إس إن أو” بعد وقت قصير من الزيارات التي قام بها إليها الزعيم الإسرائيلي الذي غادر موقعه مؤخراً.
غير أن الكاتب يشير أنه فيما يتعلق بالأرباح التي تحققها الشركات السيبرانية، فإن الصورة أبعد ما تكون عن الوضوح، فلكونها شركات خاصة لا يتم تداولها علناً في سوق الأسهم، تحتفظ هذه الشركات بقائمة زبائنها لنفسها، وكذا بأحجام العقود التي تبرمها معهم، وتكاليف الوقت والمواد لكل واحد من هذه المشاريع السرية، وكذا بتقاريرها المالية، من الإيراد الكلي، وتكاليف التشغيل والأرباح، والتي ليس من السهل الوصول إليها.
وينوه أنه في شهر يونيو/ حزيران الماضي قامت منظمة “من يربح”، وهي عبارة عن مشروع يشرف عليه الائتلاف الإسرائيلي لنساء من أجل السلام، بنشر تقرير حول القطاع السيبراني الإسرائيلي، وقدرت بناءَا على تقارير منشورة في وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن مجمل الصادرات السيبرانية من إسرائيل وصلت إلى 6.85 مليار دولار تقريباً في عام 2020، وهو رقم يكاد يكون مطابقاً لمجمل صادرات السلاح من إسرائيل في نفس السنة.
في المقابل، نشرت منظمة “هاشومريم” الصحفية الاستقصائية، بناء على مقابلات أجريت مع مسؤولين في الحكومة، ما يفيد بأن صادرات إسرائيل السيبرانية بلغت 5 ملايين دولار فقط لا غير في عام 2019، وذلك يعادل فقط 7 بالمائة من مجمل صادرات السلاح في تلك السنة.
ويتساءل الباحث: هل ارتفعت الصادرات السيبرانية في سنة واحدة إلى أربعة عشر ضعفاً؟ ويجيب بأن الراجح هو أن الأرقام الحقيقية لا تزال سراً طي الكتمان وأن كلا التقريرين قد جانبا الصواب في تقديراتهما.
غير أنه بات من الصعب الحفاظ على سرية شركات الأمن السيبراني الإسرائيلية في عالم يشهد تزايداً في خصخصة قطاع الأمن.
ويقول الكاتب إن شركات الأمن الخاصة تعتمد على الاستثمارات الخاصة وعلى الزبائن الذين يحرصون على خصوصيتهم، ولذلك فإنه لا مفر أمامها من أن تسعى للوصول إلى الجمهور وتروج لنفسها. اعتادت الحكومة الإسرائيلية على إحكام السيطرة على قطاع تصنيع الأسلحة وعلى المنظمات الاستخباراتية التي تعمل داخل وخارج إسرائيل، إلا أن الخصخصة ما لبثت أن زحفت حتى غدت أكبر شركة سلاح إسرائيلية، واسمها “إلبيت سيستمز” مملوكة للقطاع الخاص.
وبالنسبة لمجموعة “إن إس أو”، لا يقتصر الأمر على كونها مملوكة للقطاع الخاص بل لقد اشتريت غالبية أسهم الشركة من قبل صندوق نوفالبينا الموجود في أوروبا في 2019، الأمر الذي يعني أن الشركة قد تكون إسرائيلية ولكنها مملوكة لمستثمرين أجانب.
ويعطي الكاتب كمثال آخر شركة بلاك كيوب (المكعب الأسود) ، فهذه شركة تجسس إسرائيلية تفتخر بأنها تأسست على أيدي عملاء سابقين في الموساد. إلا أن وثائقياً مدته ساعة كاملة عرض في إسرائيل كشف عن قائمة طويلة من الإخفاقات التي ارتكبتها بلاك كيوب، حيث إن الكثيرين من المستهدفين من قبلها أدركوا أنهم ضحايا لتجسسها فبادروا إلى فضح الشركة عبر وسائل الإعلام. قامت بلاك كيوب بمقاضاة منتجي البرنامج الوثائقي إلا أنها ما لبثت أن سحبت القضية وقامت بدفع تعويضات.
وينوه الباحث كذلك أنه تم الكشف عن أن شركة استخبارات سيبرانية إسرائيلية أخرى، اسمها “سيليبرايت”، وفرت معدات مراقبة لروسيا البيضاء وللسلطات الصينية في هونغ كونغ وكذلك لروسيا. وأعلنت الشركة من بعد أنها ستنهي عملياتها في هذه البلدان، ولكن عندما لجأت منظمات حقوق الإنسان إلى المحكمة الإسرائيلية لمعرفة ما إذا كانت التكنولوجيا التي تنتجها سيليبرايت مازالت باقية في أيدي هذه الحكومات حتى بعد مغادرة الشركة، رفضت المحكمة الإسرائيلية مناقشة القضية.
وبفضل التحقيق الذي قامت به فوربيدن ستوريز (الحكايات المحرمة)، ومنظمة العفو الدولية ومنظمة “سيتيزن لاب”، وكذلك العمل الذي قامت به “فورينسك أركتكشر”، غدت “إن إس أو” الشركة الإسرائيلية الأشهر (أو الأسوأ سمعة) في مجال الحرب السيبرانية.
ويؤكد الكاتب أن الشهرة هنا لا تعني بالضرورة النجاح، وينقل عما اكتشفته صحيفة “هآرتس” بإجراء لقاءات مع عمال الشركة، أن ما يميز “إن إس أو” من بين الشركات في البلدان الأخرى هو استعدادها للدخول في مجازفات أكبر، مثل التعامل مع أكثر الحكومات سلطوية وأشهدها انتهاكاً لحقوق الإنسان.
وتساءلت الصحيفة العبرية عما إذا كانت المجازفات تعبر عن الثقة بالنفس أو عن حالة من الإحباط واليأس. في عام 2017، قررت شركة إدارة استثمارات مقرها الولايات المتحدة، واسمها بلاكستون، عدم الاستثمار في “إن إس أو” لأنها اعتبرتها خطرة جداً على الاستثمار.
وتذكر أنه عندما رفع فيسبوك قضية ضد إن إس أو بسبب ما زُعم أنه اختراق لما يزيد على الـ1400 حساب واتساب، وهي قضية انضم فيها إلى فيسبوك كل من ميكروسوف وغوغل، وجدت إن إس أو نفسها عرضة لمزيد من الضغط.
وتزعم الشركة الإسرائيلية الآن إنها وضعت ميثاقاً أخلاقياً خاصاً بها من أجل توخي مزيد من الحرص عند اختيار زبائنها. ونشرت هذا العام تقرير شفافية، وإن كانت منظمة العفو الدولية قد رفضت أخذه على محمل الجد قائلة بأنه “فرصة ضائعة” لأن شفافيته غير كافية.
وينقل الباحث عن تقرير في لمجلة “ذي ميكر”، يقول إن الأوضاع المالية لمجموعة “إن إس أو” كانت في تدهور حتى قبل أن يتم فضح عملياتها. وقد وظفت الشركة المزيد من العاملين وعززت قوتها العاملة من 600 إلى 750 فيما يبدو للتعامل مع القضية التي رفعها عليها فيسبوك ومع التغطية الإعلامية السلبية التي تحظى بها.
في عام 2020، كانت إيرادات “إن إس أو” 243 مليون دولار مقارنة بمبلغ 251 مليون دولار في عام 2018. ولاحظ تقرير المجلة أن “أن إن إس أو” غيرت مديرها التنفيذي ثلاث مرات في أحد عشر عاماً. وأنها لم تتمكن من الحصول على التقارير المالية للشركة بشكل مباشر، ولكنها أشار إلى تقرير صادر عن وكالة “موديز” المتخصصة في تقييم مستوى الاعتماد للشركات، حيث حذرت هذه الوكالة في شهر مايو/ أيار من أن انسياب النقد في الشركة غدا سالباً وكان ردها على ذلك تخفيض معدل اعتماد “إن إس أو” إلى ب3.
ويقول الكاتب إنه في السابع والعشرين من يوليو/ تموز أعلن عن أن “نوفالبينا كابيتال”، الصندوق الذي يملك معظم أسهم “إن إس أو”، يواجه التصفية بسبب خلافات نشبت داخل إدارته. إذا ما انتهى الأمر بالصندوق ليبيع موجوداته في السوق المفتوحة، لا يوجد قانون بإمكانه أن يمنع المملكة العربية السعودية أو الصين أو إيران من شراء أسهم “إن إس أو”، وبذلك يتمكن أي بلد من الحصول على موقع المالك لغالبية الأسهم.
وبحسبه تكمن المجازفة في أن تخصيص الأمن يفضي إلى فقدان السيطرة من قبل الدولة على الأسلحة والمعلومات التي تنتجها لاستخداماتها العسكرية والأمنية.
ويؤكد الباحث أنه طالما ظلت الحكومة الإسرائيلية تستخدم وسائل التجسس والمراقبة الجماعية بهدف إبقاء الفلسطينيين في حالة من الرعب الدائم، فيما كان الاحتجاج الدولي في أدنى مستوياته. ولكن الآن، وبعدما صار الجميع على سطح الكوكب يخشون من التعرض للمراقبة والتجسس، فقط لأن جهة ما قررت استئجار إن إس أو (أو شركة أخرى) للقيام بالتجسس عليهم، فقد بدأ القلق يساور الجميع حول العالم.