قانوني أكاديمي يتحدث العربية الفصيحة، ولا يمتلك حزبا سياسيا ولا لونا أيدولوجيا، دخل اللعبة السياسية من باب الرئاسة بقفزة واحدة، أرادوه رئيسا (ثانويا) ولكنه قفز إلى خشبة المسرح ليلعب دور البطولة/ الرئيس التونسي يتحمل مسؤولية الثورة التونسية الثانية / ثورة القصر، هل ينجح؟
باختصار شديد، إذا انتصر الرجل ونجح بوضع تونس على المحجة البيضاء فقد دخل التاريخ، وأسس للجمهورية التونسية الثانية، وإذا فشل فسيلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، وباختصار أشد فإن قفزته الفوق دستورية مرهونة بنتائجها، بغض النظر عن كل ما يجري من توصيفات متشاكسه ومن مواقف أيدولوجية متخالفة على جانبي الطريق الذي شقه الرئيس قيس سعيد بضربة واحدة.
يبدو الشعب التونسي أو معظمه متفائلا بما قام به الرئيس، خلافا للقوى السياسية الفاعلة والمنخرطة في اللعبة السياسية الدائرة منذ عشر سنوات استنفذ فيها الشعب التونسي صبره كله، وبات غير مطمأن إلى ثورته ونتائجها ومخرجاتها، وغير راض لا عن الأداء السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا الصحي، ولا عن مجمل السياسات التي كانت حصيلتها ضعيفة ودون الطموحات.
مشجعو فريق الإسلام السياسي الذي بدأ يخفت بريقه ويختفي أعلامه ولاعبوه الكبار، يصطفون لا إراديا مع السيد راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة، وينكمشون لا شعوريا تجاه الخطوة أو القفزة المفاجئة التي قام بها الرئيس قيس سعيد، بغض النظر عن التحليل الموضوعي لأداء هذا الفريق الذي كان لاعبا رئيسا في الحالة السياسية التي شهدتها البلاد خلال العشر سنوات التي تلت الثورة، ولا شك أنه يتحمل مسؤوليتها أو جزءا من مسؤوليتها بقدر مستوى وحجم مشاركته في العمل السياسي التحضيري والتأسيسي أو الإجرائي العملي، وهو بلا شك متهم رئيس في ما آلت إليه البلاد وما يعيشه العباد من تراجع ملحوظ في مستوى المعيشة وتردي الأوضاع الاقتصادية والصحية.
وعلى جانب آخر، فإن الخاسرين من هجمة الثورة المضادة، الممولة عربيا والمدعومة دوليا، والتي أطاحت بالنظام الشرعي المنتخب في مصر، وأشاعت حالة مظلومية الإخوان بين كثير من فئات وشرائح المجتمع العربي، وصنعت تراجيديا ما زال تأثيرها وصداها يترددان في ضمير المواطن العربي، سيسحبون كل هذا الوجدان المشحون على الحالة التونسية، وربما سيخطئون في توصيفهم للتجربة التونسية قياسا على التجربة المصرية الفاقعة، مع أن الاستقراء الموضوعي للحالتين لا يشير إلى حالة تطابق أو عملية استنساخ أو قص ولصق، تمكنهم من الحكم على التجربة التونسية بنفس أحكامهم على التجربة المصرية، فالرئيس قيس سعيد أكاديمي وفقيه قانوني لم يمارس العمل السياسي ولا العمل العسكري ولا ألامني، وحزب النهضة لم يتم إقصاءه ولا الانقلاب عليه، وهذا الحزب قد اختار الانخراط في العمل السياسي مبتعدا عن أدبيات وسياسات ومقولات الإخوان، بل أن السيد راشد الغنوشي قد أبدى مرونة سياسية واضحة وقدم تنازلات أيدولوجية مقابل الشراكة الديموقراطية في حكم البلاد، وأبدى رشد سياسيا كبيرا، هذا بالرغم من بعض الفئات السياسية المناوئة والتي ما زالت تنظر إليه بعين الشك والاتهام حتى ولو خرج من دين الإسلام، وبدا هذا الخطاب واضحا عند البعض وفي مقدمتهم البرلمانية المتحفزة والمستفزة “عبير موسي”.
يعلق الكاتب الصديق نزار حسين راشد على مقالي السابق وكان تحت عنوان “الدولة التونسية بين النظامين البرلماني والرئاسي “فيقول: “فاقد الشيء لا يعطيه، وكان أجدر بالرئيس أن يواصل اللعبة السياسية الديموقراطية من الداخل، لا أن يهدم المعبد على رؤوس الجميع”، فأقول له: أولا ما هو الشيء ومن هو الذي فقده؟ فالرئيس قيس سعيد أساسا من خارج النادي السياسي، فإذا كان فاقدا للتجربة السياسية، فهو كاسب لثقة انتخابية شعبية بلغت 72%، ولم يكن لا قائدا عسكريا ولا ضابطا أمنيا، ولكنه استلم منصبا مفرغا من المضمون، وكرسيا للرئاسة بدون صلاحيات حقيقية، وبقي مجرد “كمبارس” متفرج على لعبة التجاذبات السياسية بين الحكومة والبرلمان، وبين الأحزاب نفسها التي تحولت إلى فرق استعراضية وظاهرة كلامية على شاشات التلفاز دون أي إنجاز حقيقي، بينما البلاد تتراجع إلى حدود الإفلاس دون أن يحرك ذلك حس المسؤولية عند هذه الأطراف المتناحرة، فماذا كان عليه أن يفعل، هل يستمر كشاهد زور على مسرحية بائسة وهزلية، أم ينتظر صعود ضباط الجيش إلى دباباتهم ليحتلوا شوارع العاصمة احباطا من جدل السياسة وهواتها ومغامروها؟ الهوى “الاخواني” واضح جدا يا صديقي، ولكن لا يجب أن يحجبنا عن قراءة المشهد على واقعيته، رغم ألاعيب السياسة ومكر السياسيين.
ونحن نعلم جيدا أن المؤسسات السياسية بما فيها الدستور والقوانين، هي أدوات وإطار للحركة السياسية المنضبطة من أجل تحقيق أهداف الشعب، خاصة بعد ثورة كبرى هزم فيها الشعب نظاما استمر في حكمه ثلاثين سنة، ووضع آماله في رقبة هؤلاء الذين أقسموا على خدمة الوطن والمواطنين، فإذا كانت الأحزاب وفقا لهذه اللعبة لا يمتلك أي منهم تمثيلا شعبيا يمكنه من اختراق حالة التكافؤ الهزيل والمائع وغير المجدي لينقذ البلاد مما عي فيه، فإن الرئيس يمتلك 72% من التمثيل الشعبي والثقة الجماهيرية ليوقف اللعبة عند حدها، ويوقف المسرحية المملة، ويقود ربما لأول مرة ثورة من داخل القصر الرئاسي، بعد أن فجر الشعب التونسي ثورته على زين العابدين بن علي من وسط الشارع.
لقد كانت الثورة التونسية ثورة رائدة، ولم تكن تقليدا لأحد، ولم تكن بإيعاز من أحد، وقد شهد لها العالم بالانضباط والسلمية والابتعاد عن العنف، وقد سجل الجميع للجيش التونسي أنه كان مثالا للجيش الوطني خلال الثورة العتيدة فكان مع الشعب قلبا وقالبا، حتى انتصرت ثورته، وها هو نفس الجيش مع الرئيس الذي يقود ثورة أخرى نيابة عن الشعب.
مما نراه أن الأحزاب السياسية بما فيهم حزب النهضة، قد أبدوا مرونة سياسية في التعامل مع الحدث، فقد صرح السيد الغنوشي بانه مستعد لتقديم تنازلات وإن كان لمح للتهديد بإنزال أنصاره إلى الشارع، وهذه خطوة ليس رشيدة، وربما تفجر الشارع التونسي، وتفضي إلى ما لا يحمد عقباه، وليس مهما ولا حصيفا ولا حكيما ولا هو في طبع الفهم السياسي أن تكون تجارب الشعوب كلها في سلة واحدة، ولا أن تصبح نسخا كربونية عن بعضها، تونس تجترح تجربتها منذ اليوم الأول للثورة، ولا زالت.
وسنبقى نؤكد على أنه ليس مهما توصيف وتنميط الإجراءات الأخيرة للرئيس قيس سعيد، بقدر أهمية الاعتراف بالأخطاء السابقة، والتعلم من التجارب الماضية، والجلوس مرة أخرى لوضع خارطة الطريق التي تعيد عربة السياسة في البلاد إلى المسار الصحيح والمنتج، وتحمي إرث الثورة.
وفي رأيي، أن الخطأ الأكبر وهو خطأ بنيوي وهيكلي كان في اختيار النظام البرلماني وتأسيس الدستور بناء عليه، والذي غالبا ما تتماهي وتختلط فيه صلاحيات السلطات الثلاث، خاصة التنفيذية والتشريعية، ويظهر فيها التخادم المصلحي بين الأطراف السياسية والسلطات على حساب مصلحة الدولة والشعب، ولنا فيما فعله الرئيس أردوغان في تركيا من تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي خير دليل. وتبقى النتيجة – كما قلنا في مقدمة المقال – مرهونة بالنتائج، وإن غدا لناظره قريب.
عمان / الأردن