فجوة زمنية ..سما حسن

الخميس 15 يوليو 2021 10:08 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 فجأة وجدت نفسي مثل الذي قرر أن يهرب من السجن، وقام بحفر حفرة أو نفق تحت الأرض، وظل يحفر ويحفر حتى اقترب ثانية من سطح الأرض وأطل برأسه، فوجد أنه قد انتقل عبر الزمن لزمن آخر، فهو لم يعد لبلدته ولا بيته، ولا لمسافة بعيدة من السجن، وهكذا أنا وجدت نفسي قد اجتزت فجوة زمنية، فجأة وجدت نفسي في عالم آخر لا يشبه غزة، غزة التي احتوتني واحتويتها.
تخيلوا كم عشت في غزة، ذلك الاحتواء المتقبل، أي انها كانت تقبل بي وكنت أقبل بها، كانت تحتوي كل شيء بي وكنت احتويها، تعرفون كيف يعني انني احتويها، اذكركم بما عشت في غزة ابتداء من عمر السادسة عشرة، حيث بدأت انتفاضة الحجارة، واليوم انا أقترب من عامي الخمسين، تخيلوا معي شريطاً مروعاً ومحزناً ومجهداً ومثقلاً بالمشاعر قد احتويته في غزة، واحتوته غزة، مروا بصفحات التاريخ وتوقفوا عند ثلاث حروب أو اربع، وتوقفوا عند معاناة الحصار وانتظار عودة الكهرباء على سبيل المثال.
في الصباح الأول في مدينة اسطنبول كنت افتح عيني على عجل والتفت نحو سماعة هاتفي، واكتشفت انها الخامسة فجراً، وهكذا هتفت بنفسي بأن علي ان اسرع بانجاز ما علي من اعمال قبل انقطاع التيار الكهربي في السادسة صباحا حسب جدول انقطاع الكهرباء في غزة، ولكني استدركت نفسي وتذكرت انني في عالم آخر، انني انتقلت عبر فجوة زمنية حيث ان الضروريات هي نوع من الترف هنا.
لا تتخيل ان تعيش هذه المدينة الضخمة التي اطلقت عليها اسم القارة في حالة انقطع الكهرباء لساعات طويلة مثلما يحدث في غزة، وهكذا استعدت هدوئي وانجزت أعمالي المنوطة بي بكل هدوء، وتقاعست قليلا لكي استمتع بحق ضائع.
في هذه المدينة التي انتقلت اليها عبر فجوة زمنية تكتشف ان الحياة تركض بسرعة، وان كل شيء يمر بك في لهاث ودون التقاط الانفاس، ربما لذلك فلا مجال لكي يلتفت أحد إلى أحد، فلم يلتفت احد نحوي حين علقني ابني الذي جئت لزيارته خلفه على دراجته النارية وجاب بي الشوارع ليلا حول مكان اقامته واقامتي الحالية.
كنت اشعر بالحرج رغم ان كثيرين يفعلون ذلك ولكن الفارق ان احداً لم يرفع رأسه نحونا أو يلتفت حتى وأنا أصفق بيدي فرحاً.
كثير من الحرية والقليل من الحميمية في هذه المدينة تشعر فيها بالجفاف والحنين وتشعر بالغربة، وتشعر بعجلة الحياة المتسارعة، وكل ذلك يملؤك بالحنين لمدينة هادئة ناعسة على شاطئ البحر اسمها غزة.
في غزة تعرف انك انسان وانت تتفاعل مع من حولك، هنا تشعر انك آلة في ترس آلة، وهكذا تجد ان لا احد يعبأ بك سوى عالمك الافتراضي، ولكن تجد من يلقي عليك التحية ويعيد لك ذكريات قديمة مثلاً، أو يحملك السلام، او يقول لك على الأقل: الله يرحم والديك.
هنا تكتشف انك وصلت لسن لا يحتمل هذا الصخب، وانك تعشق تلك المدينة التي تراها هادئة ومسالمة وبسيطة، فهنا لا يمكن ان تتنقل دون بطاقات، ولا أن تستخدم حتى الحمامات العامة دون بطاقات، وتتحول حافظة نقودك لكومة من البطاقات، وهناك شعارات او اشعارات لا يمكن ان تدخل مؤسسة او مولاً تجاريا ضخما بدونها اسمها : الهيس كود».
هنا انت مغرق في التعقيد، الذي لا تحتاجه وتترك نفسك لتعيشه وانت مدرك تماما انك سوف تعود لغزة، لنصف قرن قضيته بالقبول المتبادل.
هنا تشعر انك في فجوة زمنية عميقة يصعب عليك ان تستوعبها  وتشرع بشق طريقك العكسي إلى السجن الذي جاهدت للهروب منه، انت تشعر  بالحنين ولم تنتزع تلك المدينة من خلاياك فلذلك انت غريب... والغريب اعمى ولو كان بصيرا.