في خضمّ ثلاثية القطبية الدولـيـة: الشــرق الأوسـط: انحـسـار المكــانـة..علي الجرباوي

الخميس 15 يوليو 2021 10:05 ص / بتوقيت القدس +2GMT
في خضمّ ثلاثية القطبية الدولـيـة: الشــرق الأوسـط: انحـسـار المكــانـة..علي الجرباوي



يبدو جليّاً أن نظرة كل واحدة من القوى العالمية المنخرطة حالياً في صراع ثلاثية القطبية الدولية؛ أميركا وروسيا والصين، لا تضع منطقة الشرق الأوسط على رأس قائمة أولويات سياستها الخارجية، ولا تعتبرها المنطقة التي يعتمد عليها تحقيق تفوقها على القوتين الأخريين، وفوزها في هذا الصراع. بل على العكس من ذلك، فجميع الدلائل تُشير إلى تنامي التوجه لدى هذه القوى لتجنّب الانخراط المكثف في شؤون المنطقة، أولاً لأن الصراع عليها لم يعد ذا بُعدٍ أيديولوجي كما كان الحال إبّان حقبة ثنائية القطبية، وثانياً لأنها منطقة تغرق حالياً في حالة فوضى عارمة لا تريد القوى العالمية الغرق في مستنقعٍ يستهلكها في إدارته، ولا تعرف كيفية الخروج منه.
هذا لا يعني أن المنطقة فقدت كل أهميتها للعالم، وفي الصراع الدائر حول إعادة تشكيل النظام الدولي. فالشرق الأوسط لا يزال يشكّل حتى الآن، وعلى المدى القريب، المصدر الأول لتوفير الطاقة للعالم، والمعبر الرئيس للتجارة الدولية، وسوقاً استهلاكية كبيراً ومقتدِراً مادياً، وخصوصاً في الخليج. لذلك لا تزال هذه المنطقة تحظى باهتمام وتنافس كل طرف من ثلاثية القطبية الدولية، ولكن ضمن منطلقات أصبحت في جوهرها براغماتية – نفعية، تنظر للمنطقة ليس كـ «ذخرٍ استراتيجي» يُستمات على الاحتفاظ بها، وإنما كحلبةٍ خلفيةٍ يُدار الصراع فيها كجزءٍ من مكوّنات الصراع الكوني. بصيغة أخرى، لم يعُد الصراع بين ثلاثية القطبية الدولية يتمحور على المنطقة، وإنما أصبح مجرد جزءٍ من صراعها العالمي الأوسع.
لم تعد الرغبة الأميركية في تقليص دورها في المنطقة سرّا خفياً، بل غاية معلنة، ابتدأت في عهد إدارة أوباما الثانية، وتصاعدت لاحقاً على ضوء الصعود الصيني، وازدياد الناتج والمخزون النفطي لأميركا. وإدارة بايدن تعتبر الآن أن أولى أولوياتها تتمحور على مواجهة واحتواء الصين، والتي تعتبرها المنافس الجدّي الوحيد لها. لذلك هي قررّت نقل مركز اهتمامها وثقل عملياتها إلى الشرق؛ إلى منطقة المحيط الهادي تحديداً، لكي تعمل من قربٍ على مراقبة ومحاصرة الصين. ويأتي المسرح الأوروبي ثانياً في الأولويات الأميركية، تدعيماً للتحالف الغربي التقليدي من جهة، ومواجهة روسيا من جهة أخرى. أما الأولوية الثالثة فتحظى بها منطقة الأميركيتين، تدعيماً للمصالح الأميركية التقليدية فيما يُعتبر ساحتها الخلفية.
بعد ذلك، يأتي الاهتمام بالشرق الأوسط، الذي تحتلّ فيه العلاقة العضوية مع إسرائيل الأهمية الأساسية. ومن بوابّة هذه العلاقة، تُحدد أميركا علاقاتها مع بقية الأطراف في المنطقة، فتصبح مسألة احتواء إيران ومنعها من تطوير قدرتها النووية أولوية قصوى، والحفاظ على علاقة متينة مع مصر من ثوابت الأجندة. أما اعتمادية دول الخليج على أميركا، وخصوصا في حماية أمنها، فهي أمرٌ مفروغٌ منه ولا يحتاج لبذل أي عناءٍ أميركي. بل على العكس، إذ أبدت إدارة بايدن تذمرها من تصرفات بعض هذه الدول، وخصوصاً ما يتعلق بسجلها المتعلق بالحريات وحقوق الإنسان، وحذرّت من أنها ستكف عن منحها حرية التصرف بدون مساءلة في هذا المجال. وأعلنت الإدارة أنها ستقلّص من تواجدها العسكري في المنطقة، وتعيد تموضع قواتها للتدخل السريع في الحرب المستمرة ضد الإرهاب، وستنهي حروبها المفتوحة، وستعمل على حل النزاعات بالطرق الدبلوماسية، ولذلك سحبت دعمها لاستمرارية حرب اليمن، وأعادت الاعتبار لدورها وسيطاً لإيجاد تسوية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
كل ما سبق لا يعني خروجاً أميركياً كاملاً من الشرق الأوسط، بل تقنين لدور أميركا التدخلي في المنطقة التي ترغب معظم دولها استمرار هذا التدخل. فالعديد من هذه الدول ذُعر من التوجه الانسحابي الأميركي، وأبدى الاستعداد التام لتمويل استمرار هذا الوجود.
لا تمتلك روسيا رؤية استراتيجية لدورها في الشرق الأوسط، وإنما تنطلق من سياسة براغماتية هدفها مراكمة المنافع، في وقتٍ تحاول فيه استعادة دورٍ رياديّ على الصعيد الدولي. لذلك تحاول النفاذ من كل الشقوق المتاحة، وتعمل على مختلف الصعد مع المتاح من دول المنطقة. أما أهدافها من تدعيم وجودها ونفوذها في المنطقة فيتلخص بضمان وجود آمن ودائم في المياه الدافئة للبحر المتوسط، ومواجهة حلف الناتو المتمدد شرقاً من جنوب أوروبا، وتأمين حصتها من النفط والغاز الطبيعي في السوق الأوروبية، والعمل على ضمان أسعار مناسبة للنفط حفاظاً على استمرار تدفق ملائم للعملة الصعبة للبلاد، واستجلاب استثمارات خليجية للسوق الروسي، وتوسيع رقعة وكمية صادراتها المتواضعة إلى المنطقة، والمحافظة الوقائية على أمن البلاد من تسرُب الإرهاب الدولي إليها من الدول التي تعاني منه في المنطقة.
وجدت روسيا في الأزمة السورية لها منفذا للعودة للمنطقة، وأقامت قواعد عسكريةً ثابتة لها في اللاذقية وطرطوس. ويُعدّ ذلك أهم إنجاز لها، كونه منحها الوجود الدائم في البحر المتوسط؛ في مركز حركة النقل والتجارة الدولية. وبدأت موسكو في تمتين هذا الوجود من خلال التدخل المباشر في الصراع على ليبيا، وإقامة ارتباطات عسكرية لها في مصر والجزائر، وعرض صفقات سلاح متطورٍ على عديد من الدول، بما فيها الخليجية، وتركيا التي تجمعها بها –كما وإيران- علاقة حذرة. كما وجدت روسيا في الدول الخليجية منفذاً مناسباً لإنعاش اقتصادها المتهاوي، وبالأساس عن طريق تأمين مساهمة صناديق سيادية لبعضٍ منها في استثمارات روسية. أما بالنسبة للقضايا الشائكة الرئيسية التي تعاني منها المنطقة، مثل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فقد أخذت منها روسيا مواقف توفيقية، بحيث أبقت لنفسها إمكانية النفاذ من خلالها إلى المنتديات الإقليمية والدولية، التي تساعدها على تنشيط دورها الدولي، ولكن دون أن تثير بهذه المواقف غضب الأطراف المتباينة أو المتصارعة. وعلى سبيل المثال، تمّ مؤخراً الكشف عن اتفاق تعاون عسكري لروسيا مع أثيوبيا، في الوقت التي تمرّ فيه علاقات الأخيرة مع مصر، التي تربطها علاقات وثيقة مع روسيا، بحالة توتر شديد.
تحاول روسيا من اتّباع هذه السياسة البراغماتية في الشرق الأوسط النفاذ من جديد إلى ساحة السياسة الدولية، واستعادة المهدور من دورها العالمي. وبالأساس، هي تحاول مناوشة الولايات المتحدة وتحدي سياساتها، من خلال محاولة إيجاد دور مؤثر لها في العالم انطلاقاً من خاصرته الرخوة؛ من الشرق الأوسط.
كأميركا وروسيا، لا تعتبر الصين منطقة الشرق الأوسط غاية بحدّ ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق ثلاث غايات أساسية لتدعيم دورها على الساحة الدولية. فهي شديدة الاهتمام بتأمين إمدادات الطاقة، من نفطٍ وغازٍ طبيعي، التي هي في أمسّ الحاجة لها لاستمرار دوران عجلة اقتصادها المتنامي. وبما أنها لا تمتلك مخزوناً ذاتيا كافياً من مكونات الطاقة، فإنها تعتمد على استيراد احتياجاتها من الخارج. وتشكّل الدول الخليجية المصدر الرئيس لتوريد النفط والغاز للصين، وبما يقرب من نصف احتياجاتها النفطية. كما وأنها تهتم، ثانياً، بأمن الملاحة البحرية، ما يعني أن المضائق الرئيسية الموجودة في الشرق الأوسط، والموانئ المنتشرة على بحر العرب والأحمر والأبيض، تحظى لدى الصين بأهمية فائقة. فبُنية ونجاح اقتصادها، حتى الآن على الأقل، يعتمد على نقل بضائعها إلى مختلف أرجاء المعمورة. وجزء رئيسي من عملية التنقل هذه يمرّ عبر الشرق الأوسط. ولذلك فإن ضمان استمرار فتح هذه المضائق، ووجود موانئ موثوقة، هو أمرٌ حيويّ لاستمرار تقدّم الصين وصعودها. كما تهتم بكين، ثالثاً، بتنمية علاقاتها وروابطها التجارية مع دول المنطقة، وخصوصاً مع دول الخليج الثرية. فاقتصادُ وافر يحتاج دائماً إلى أسواقٍ ثريّة مستهلِكة.
هذه الغايات الثلاث جمعتها الصين ضمن إطار رؤيتها وأهدافها واستثماراتها المتضمنة في «مبادرة الحزام والطريق»، والتي تُوجه جميع حساباتها وخطواتها المتخذَة في المنطقة، خاصة في مجال تطوير علاقاتها الثنائية مع كل دولة من دول المنطقة. ولكن يجدر لفت الانتباه لأمرين؛ الأول، أن بكين ترغب في تحاشي الانخراط في الخلافات المحتدمة في المنطقة، وتحاول جهدها أن تبقى خارج إطار الانغماس في شؤون صراعاتها الداخلية. وهي في ذلك تنتهج سياسة براغماتية تحاول من خلالها إرضاء جميع الفرقاء، وذلك بالتركيز على العمل ضمن المنتديات والأطر الإقليمية. لا ريب، إذاً، أن تتّبع الصين سياسة مؤيدة للقضية الفلسطينية، في ذات الوقت الذي توطّد فيه علاقاتها بإسرائيل، وخاصة في المجال التكنولوجي وتقنيات الذكاء الاصطناعي. والثاني، يُلاحظ أن مسارات الخطوط التجارية البرّية الستة المقترحة ضمن «مبادرة الحزام والطريق» لا تخترق الشرق الأوسط إلا بطريق واحد يمرّ عبر إيران وتركيا، ويتخطى المجال العربي. وهذا ما يجعل من إيران شريكا أساسيا في الرؤية الصينية لترتيب أوضاع المنطقة في المستقبل. كما ويجدر الانتباه أن بكين تشترك في مسعى إيجاد خط رابط بين البحرين الأحمر والأبيض يتخطى قناة السويس.
تحاول كل قوة من قوى ثلاثية القطبية الدولية ضبط إيقاع تحركاتها وتدخلاتها بما يعود عليها بالنفع من منطقة الشرق الأوسط في خضّم صراعها على العالم. ما يُثير الأسى أنه باستثناء الدول غير العربية في المنطقة، وهي إيران وتركيا وإسرائيل، فإن البواقي؛ الدول العربية، لا يزيد دورها على تلقي استخدامات هذه القوى العالمية لها.