قد يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انتظر حتى يسبر غور نوايا الرئيس الأميركي جو بايدن خلال اجتماعهما في جنيف منتصف حزيران الماضي، قبل أن يقوم في الثالث من تموز بالمصادقة على «نسخة منقحة من استراتيجية الأمن القومي لروسيا»، ويُصدّرها بموجب مرسوم رئاسي.
أما متضمنات هذه النسخة من توجهات عامة بشأن حماية الأمن القومي للبلاد، فتبني على ما جاء في الوثيقة الاستراتيجية الأُم بهذا الشأن، والتي كانت صدرت عن الكرملين في آخر يوم من العام 2015، آخذةً بالاعتبار ما جرى في العالم من أحداثٍ وتطوراتٍ خلال فترة الأعوام الخمسة ونصف العام التالية.
وتتضمن هذه «النسخة المنقحة» الرؤية الروسية المستجدة لوضع العالم حالياً، والصراع الدائر بين أقطاب النظام الدولي، ودور روسيا فيه، وخصوصاً ما يتعلّق بكيفية درء المخاطر عنها، والمحافظة على مصالحها الحيوية.
ترسم «النسخة المنقحة» صورة سوداوية قاتمة لواقع روسيا حالياً، وذلك جرّاء ما يعتبره الكرملين استهدافاً منهجياً مقصوداً ومبرمجاً من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، الذين يعرّضونها لمخاطر أمنية وتحديات اقتصادية ضاغطة تستهدف إضعاف قدرات البلاد، وتفكيك تحالفاتها، وتقويض مكانتها الدولية.
وتتهم الوثيقة الجديدة «جهات خارجية»، والمقصود هنا الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية، بالقيام بحملة لإضعاف تكوين الدولة الروسية من الداخل، وتدمير وحدتها الوطنية، وتفتيت المجتمع الروسي من خلال دعم حركات معارضة هامشية، وتأجيج الصراعات العرقية والدينية.
يُضاف إلى ذلك، قيام هذه الجهات بمحاولات لتدمير الذاكرة التاريخية للشعب الروسي، وتشويه تاريخ البلاد، وتقزيم إسهاماتها في مجرى التاريخ العالمي، وضرب أسس البنية الثقافية الروسية، والسعي للتسلل إلى وعي الشباب وتغريب ثقافتهم. وبالتالي، تُعرب «النسخة المنقحة» عن قناعة رسمية بأن روسيا تتعرض لعملية تشويه وتفكيك منظمة، تستهدف إضعاف الدولة والسيطرة عليها من الداخل. يضاف إلى هذه الحملة على روسيا من داخلها، تشير الرؤية الروسية الرسمية إلى استهداف آخر للبلاد من خارجها.
فمنظومة الدول الغربية ما فتئت القيام بمحاولات مستمرة لتفكيك كومنولث الدول المستقلة، مستهدفةً تخريب علاقة روسيا مع حلفائها التقليديين.
كما يقوم حلف الناتو بحملة منهجية للزحف بقواعده باتجاه الحدود الروسية، ويمدد عضويته لدولٍ كانت في السابق جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ويقوم باستعراض عضلات قوته في البحر الأسود، ما يضع البلاد تحت تهديد عسكري مباشر، ويُعرّض الأمن القومي الروسي للخطر، وخاصة في مجال استهداف أمنها السيبراني.
ناهيك عمّا تتعرض له البلاد من عقوبات اقتصادية تستهدف إضعاف بنيتها وقدرتها الإنتاجية. باختصار، تعتبر روسيا الرسمية أن البلاد مستهدفة من قِبل المنظومة الغربية، التي تسعى جاهدة لاحتواء روسيا وتقزيم مكانتها الدولية ودورها العالمي، وذلك حفاظاً على السيطرة الغربية على النظام الدولي الحالي، وعلى الهيمنة الغربية على العالم. هذه هي «المظلمة» التي تعرضها النسخة المنقحة من «استراتيجية الأمن القومي لروسيا».
من بوابة الحفاظ على الشعب الروسي ومصالحه القومية العليا، وعلى قيمه الروحية والثقافية، وحماية الدولة الروسية، تطرح «النسخة المنقحة» رؤية متكاملة لكيفية مواجهة هذا الاستهداف الأميركي - الغربي.
وتنطلق هذه الرؤية من قناعة روسية رسمية بعدم توقع حدوث انفراجة في العلاقات بين الطرفين في المدى المنظور.
بل على العكس تماماً، إذ يذهب التقدير الروسي باتجاه أن تصعيد التوتر مع روسيا سيبقى هدفاً استراتيجياً للمنظومة الغربية.
وعلى هذا الأساس، تتمحور استراتيجية الأمن القومي المُعدّلة حول اتخاذ مجموعة من القرارات والإجراءات المتشابكة لتحديد الأولويات والمصالح التي يجب تضمينها في تشكيل منظومة ردعٍ تقي البلاد مما تتعرض له من استهداف خارجي. ما يعنيه ذلك أن هذه الاستراتيجية هي دفاعية بالأساس، تستند إلى تفعيل الاعتماد على الذات، وتستهدف الحفاظ على مكتسبات البلاد وتكثيفها، لتتمكن روسيا من فكّ العزلة الموجهة ضدها، والبقاء طرفاً فاعلاً في ساحة المنافسة الدولية.
تولي الوثيقة اهتماماً واضحاً لمعالجة الأوضاع الداخلية في البلاد، ما يعني اعترافاً ضمنياً بوجود ثغرة مهمة يمكن استخدامها لنفاذ الجهات الخارجية، وتوظيفها لاختراق البلاد.
لذلك يقع على رأس الأولويات الاستراتيجية الروسية مهمة تمتين الجبهة الداخلية، والتصدي الفعال لمحاولات الاختراق الغربية، وذلك من خلال تعزيز الحريات وحقوق الإنسان، وتنمية الروح الإنسانية والجماعية داخل المجتمع الروسي، وخاصة بين الشباب، والحفاظ على القيم وتعزيز تماسك الأسس التقليدية للثقافة الروسية، وتكثيف الاهتمام بالمحافظة على اللغة الروسية وتوسيع انتشارها.
ولكن ترجمة هذه النزعة الحمائية إلى واقع ستكون مهمة أصعب بكثير من مجرد إيرادها كهدفٍ استراتيجي، وخصوصاً مع تداعيات الانفتاح العولمي وتأثيراته على الدول والمجتمعات.
سيكون أسهل على روسيا تحقيق الهدف الاستراتيجي الثاني، وخصوصاً أنه يقع في المجال الذي تبرع في التفوق فيه، وهو تعزيز إمكانياتها العسكرية التقليدية، وبناء قدرة ردعٍ استراتيجي تعتمد بالأساس على تطوير قدرتها النووية.
هذا أمر تعتبره روسيا أولوية ضرورية لمواجهة ما يحيق بها من مخاطر من قِبل حلف الناتو، كما يعطيها قدرة للمناورة على الصعيد العالمي من خلال عمليات تزويد الأسلحة للدول الأخرى. ويتقاطع مع هذا المجال وجود هدف استراتيجي آخر، يتمثل باعتبار الأمن السيبراني للبلاد أولوية قصوى، لما تتعرض له موارد معلوماتها لهجمات قرصنة غربية المنشأ.
وقد يكون الاهتمام بتحصين هذه الموارد خطوة استباقية لما تتوقعه روسيا من تفاقم «الحرب» السيبرانية مع الدول الغربية، وخاصة مع أميركا، خاصة أن الأخيرة تتهمها بالقيام بهجمات سيبرانية على مصادر المعلومات الأميركية، وتنذرها بالرد المماثل.
وتولي الوثيقة أهمية كبرى لهدف تحصين القطاع الروسي من شبكة المعلومات العنكبوتية العالمية (الانترنت)، وحمايته من إمكانية وقوع أنشطته تحت سيطرة أجنبية، تقوم باستغلاله لبثّ دعاية غربية مضللة ومشوهة للحقائق عن روسيا، وللدرجة التي تُعلن فيها الوثيقة عن إمكانية التوجه نحو تطوير نظام معلوماتية وطني منفصل عن الشبكة العالمية، ليحمي استقلال البلاد ويصون سيادتها.
أما في مجال تحسين القدرة الاقتصادية لروسيا، الذي يشكّل هدفاً استراتيجياً رابعاً، فالمهمة تبدو صعبة كون الواقع الاقتصادي الحالي للبلاد يواجه العديد من التحديات الجسام.
تشير الوثيقة إلى توجه استراتيجي نحو ضرورة التخلّص من الاعتمادية على النفط مصدراً أساسياً للاقتصاد، والتوجه نحو تنويع وتنشيط مصادر أخرى تنعش وتقوّي اقتصاد البلاد، وتزيد من مزاياه التنافسية عالمياً.
ومن أجل تحقيق ذلك، تشير الوثيقة إلى أهمية زيادة الاستثمارات في قطاعات جديدة، وخاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وضرورة استقطاب علماء من داخل وخارج البلاد للعمل على توسيع رقعة وكفاءة القطاع التكنولوجي، وخاصة ما يتعلق بتطوير جوانب الذكاء الاصطناعي.
إلى جانب هذه الأهداف الطموحة التي تستهدف تحقيق معدلات نمو اقتصادي سنوي في المستقبل أعلى من معدل مثيلاتها في العالم، تعلن الوثيقة عن توجه روسيا لتقليص اعتمادية تجارتها الخارجية على عملة الدولار، والتوجه نحو استبدالها تدريجياً بعملة اليورو الأوروبية وباليوان الصيني.
هدف هذا التوجه هو إضعاف الدولار، وتقليص الهيمنة الأميركية على التجارة الدولية.
وأخيراً، تؤكد «النسخة المنقحة» الموقف الروسي المعلن سابقاً تجاه النظام الدولي الحالي، أحادي القطبية، والذي تهيمن من خلاله أميركا عليه وعلى مسرح الشؤون الدولية.
تعارض روسيا استمرار هذا النظام، وهي تطالب وتسعى لتحويله إلى نظام متعدد الأقطاب، لأن ذلك يضمن لها دوراً حيوياً مشاركاً ابتدأت بفقدانه بعد تفكك الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي.
لذلك تطالب روسيا بتعزيز دور المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة، لما تمنحه لها العضوية الدائمة في مجلس الأمن من مكانة متساوية مع مكانة الولايات المتحدة، ومن إمكانيات لعب دور مهم على الساحة الدولية.
وفي هذا السياق، تعلن روسيا عبر الوثيقة الجديدة عن توجهها الثابت لتعزيز روابط التعاون الدولي، والتي تجمعها بعلاقات وثيقة مع عديد من دول العالم، وتعد بمساعدة هذه الدول على حماية سيادتها واستقلالها في مواجهة التدخلات الغربية.
كما تعرب في الوثيقة عن نواياها بتمتين علاقاتها التعاونية مع الصين والهند كقطبين رئيسين صاعدين على الصعيد العالمي، ما يفتح المجال أمام تكوين تعددية قطبية تنهي احتكارية أميركا وهيمنتها على النظام الدولي.
آمال عريضة بمستقبل واعد تحملها «النسخة المنقحة من استراتيجية الأمن القومي لروسيا»، مقابل واقع سوداوي متشائم لما ترسمه نفس هذه الوثيقة لواقع روسيا المستهدفة من المنظومة الغربية حالياً.
والسؤال الذي يبقى مفتوحاً وبرسم الإجابة هو: هل تملك روسيا من القدرة والإمكانية ما هو ضروري ولازم لتحقيق هذه الرؤية، أم أن مقدرتها على المنافسة كقوة دولية عظمى تضاءلت وأصبحت مجرد محصورة فقط في قدرتها على إزعاج الآخرين؟