مع أن العُرف يمنح كل إدارة أميركية جديدة مدة عامٍ لنشر الوثيقة التي تُحدد رؤيتها الإستراتيجية للأمن القومي للبلاد، إلا أن إدارة الرئيس بايدن سارعت لنشر «وثيقة مؤقتة» تحدد بموجبها الخطوط العريضة لهذه الرؤية، وذلك بعد مجرد مرور خمسة وأربعين يوماً على تسلّمها السلطة (3/3/2021)، على أن يتم نشر الوثيقة الكاملة والمنقحة لاحقاً. يعود أمر استعجال النشر إلى سببين. أولهما، أن الإدارة الجديدة كانت معنيّة بإحداث قطيعةٍ سريعة مع التوجهات الإستراتيجية لإدارة ترامب، والتي كان أُعلن عنها في نهاية العام 2017. فتوجهات الرئيس بايدن تختلف في مجال السياسة الخارجية ومعالجة الشؤون الدولية جذرياً عمّا كانت عليه توجهات الرئيس ترامب، والتي تلومها الإدارة الجديدة على ما حاق بوضعية أميركا العالمية من أضرارٍ جسيمة. لذلك، كان ضرورياً أن تُعلن هذه الإدارة سريعاً عن تخلّصها من «إرث ترامب»، وانزياحها الكامل نحو رؤيةٍ ومسارٍ جديدَين، يعملان على تهدئة الداخل الأميركي وطمأنة العالم بـ «عودة أميركا» إلى استعادة مكانتها ودورها الريادي التقليدي على الصعيد الدولي.
أما السبب الثاني فهو استشعار الإدارة الجديدة ليس فقط بتردي أوضاع البلاد داخلياً، ومكانتها خارجياً، فحسب، وإنما بتصاعد عدد وحِدّة التحديات التي تواجهها، والتي أضحت تهدد استمرار حفاظ أميركا على موقعها القيادي والريادي في العالم. فعدا القضايا الشائكة التي فجّرها ترامب داخلياً، وأدّت إلى تصاعد التشققات والاستقطاب داخل المجتمع الأميركي، فإن الوثيقة تأتي على ذكر آثار جائحة وباء «كورونا»، وتغيّر المناخ العالمي، وصعود الاتجاهات القومية في العالم، والتنافس في المجال التكنولوجي، كتحدياتٍ أساسية تواجه البلاد حالياً وفي المستقبل. ولكن التحدي الأهم الذي يواجه أميركا، بالنسبة لإدارة بايدن، يأتي من قوى عالمية تعديلية، هي الصين وروسيا، وأخرى إقليمية، كإيران وكوريا الشمالية. فهذه الدول ذات النظام السياسي السلطوي، وفقاً للرؤية الأميركية، تحاول تقويض مكانة الولايات المتحدة في العالم، وتستهدف هدم استقرار وانفتاح النظام الدولي الحالي، وتسعى لإحلال نفسها على قمة هرم نظام دولي جديد تابع لها، يطيح بالديمقراطية وبريادة الديمقراطيات الغربية للعالم.
واضح من «وثيقة الأمن القومي الأميركي المؤقتة» أن مصدر القلق الأساسي والرئيسي للولايات المتحدة يأتي من الصين. فالصين، بالنسبة لإدارة بايدن هي القوة الوحيدة التي تمتلك من القدرات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية ما يؤهلها أن تكون المنافس لأميركا، وأن تشكّل التحدي الجدّي الدائم لاستمرارية استقرار واستمرار النظام الدولي الحالي، ما يفرض على الولايات المتحدة ضرورة مواجهتها بكل عزيمة وتصميم. فاستمرار تفوّق أميركا، واستمرار احتفاظها بقيادة النظام الدولي، يتوقف على قدرتها على ضبط الصعود الصيني، ومنع الهيمنة الصينية على العالم. أما القوة العالمية الثانية، روسيا، فمع أنها لا تمتلك من القدرات ما يؤهلها لتكون منافسة لأميركا، إلا أن ما تملكه من قوة عسكرية وسيبرانية، يؤهلها لأن تكون «مصدر إزعاج» لاستقرار النظام الدولي الحالي، ويتطلب من أميركا العمل على احتوائها والحدّ من هذا «الإزعاج».
تشير ثنايا الوثيقة إلى أن سياسات الإدارة السابقة، التي رفعت شعار التفرد الأميركي، وضربت أسس العمل الجماعي الدولي، وقامت بتفكيك التحالفات التقليدية للولايات المتحدة التي تعتمد عليها متانة النظام الدولي، وتغييب أميركا عن لعب دورها القيادي على المسرح العالمي، هي بمجملها التي سمحت بتفشي حالة من الفوضى في العالم. وهذا ما أتاح المجال لقوى معادية أن تستغل التراجع الأميركي لشنّ حملة تقويض للقيم والمصالح الأميركية، ولطرح نفسها كقيادة بديلة للعالم. ولكن الوثيقة تشير أيضاً إلى أن هذا التراجع ليس أمراً نهائياً وقطعياً لا رجعة فيه، بل هو أمر طارئ ومؤقت يمكن استدراكه ومعالجته وتلافيه، وتعافي الولايات المتحدة منه، بحيث تعود للقيام بدورها الريادي السابق في قيادة العالم. ومن هذا المنطلق تحدد الوثيقة معالم خارطة الطريق التي ستتبعها الإدارة الجديدة لتحقيق ذلك.
تُشدد الوثيقة على تلخيص جميع الإجراءات، المباشرة وغير المباشرة، التي يتوجب على أميركا اتخاذها لمحاصرة الصين والحدّ من نفوذها. ولكن لكي يطال هذه الإجراءات النجاح، فإن على أميركا أن تستعيد موثوقية العالم بها، وخصوصاً من حلفائها التقليديين. ومن منطلقٍ فكريٍّ ليبراليّ، ترتكز رؤية إدارة بايدن على مبدأ يتلخّص بأن «قوة أميركا في الخارج تنبع من قوتها في الداخل». ولذلك تُفسح الوثيقة مساحة وافية تُركّز فيها على ضرورة معالجة مواطن الخلل الداخلي في البلاد، ورأب صدع التشققات بين فئات المجتمع المختلفة، مع التركيز على تدعيم توسيع الطبقة الوسطى، وإعادة الاعتبار والثقة لأهمية وفاعلية وضرورة الديمقراطية لتعود لتكون المرتكَز القيمي والأساس العملي المكوّن لقناعات الأميركيين، إذ كيف يمكن إقناع الآخرين في الخارج بجدوى الديمقراطية إن لم يكن الداخل الأميركي مقتنعاً بها ودالاً على ذلك؟ ومع إعادة تفعيل الديمقراطية في الحياة السياسية الأميركية، تُركّز الوثيقة على أهمية تنشيط اقتصاد البلاد ورفع قدرتها الإنتاجية، وضخّ الموارد اللازمة للتأكد من الفوز بالمنافسة العالمية المفتوحة في مجال الابتكار والتطوير التكنولوجي، والتركيز على ضمان الأمن السيبراني للبلاد. باختصار، على أميركا أن تعود بلداً نشطاً ومنتجاً ومنفتحاً ومتسامحاً، لتسترد عند الآخرين قيمة «الحلم الأميركي»، وتُشكّل لهم من جديد الأنموذج المُبتغى.
لما سبق، تعتبر الوثيقة أن تجديد مواطن قوة أميركا، وعرض مزاياها التي تجعل منها بلداً مُفعماً بالحيوية والنشاط ودينامية السعي الإيجابي لتحسين نوعية الحياة البشرية، وخصوصاً في مساعدة العالم على تخطي ما لحق بع من أضرار جرّاء جائحة وباء «كورونا»، أمر أساسي وضروري لإعادة الاعتبار لمكانة أميركا في العالم. ومن ترميم الوضع الداخلي الأميركي، تنطلق رؤية إدارة بايدن لـ «إستراتيجية الأمن القومي المؤقتة» إلى الخارج، لإعادة بناء التحالفات والشراكات الأميركية الضرورية للعودة إلى قيادة المنظومة الديمقراطية الجماعية للنظام الدولي. وفي هذا السياق، تُعرب الإدارة عن نواياها بتعزيز التعاون مع بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي ومنظومة دول حلف شمال الأطلسي، ومع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية، ومع جارتَيها كندا والمكسيك. فالعلاقات مع جميع هذه الدول كانت تضررت خلال فترة إدارة ترامب، ما يتوجب اتخاذ الخطوات الكفيلة بإعادة بناء الثقة مع هؤلاء الحلفاء لمواجهة الخطر الصيني المتصاعد. ولكي يكتمل مسعى مواجهة الصين وحصار صعودها، تُعرب إدارة بايدن عن توجهها لتعزيز التعاون مع جارات الصين، كالهند وفيتنام وسنغافورة. يُضاف إلى ذلك إعلان هذه الإدارة عن اهتمامها بإقامة شراكات جديدة في أفريقيا التي تشهد تغلغلاً للنفوذ والمصالح الصينية، وتوجهها لتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط، تأكيداً على قرارها بنقل محور اهتمامها إلى منطقة المحيط الهادي - الهندي، لتكون أقدر على التركيز على مواجهة الصين من جوارها.
تَعِد الوثيقة باستمرار تحديث القدرة العسكرية لتبقى البلاد محافظة على تفوقها في هذا المجال، مع إرسال رسالة واضحة بأن إدارة بايدن لن تتوانى عن استخدام القوة للدفاع عن المصالح الأميركية إذا اقتضت الضرورة ذلك. ولكن توضّح الوثيقة أيضاً أن أصبع هذه الإدارة ليس على الزناد، بل هي تُعلن بأنها ستُنهي، ولن تخوض، الحروب المفتوحة، وستعتمد عوضاً عن ذلك الوسائل الدبلوماسية، التي ستوظفها ليس في علاقاتها الثنائية فحسب، وإنما أيضاً في عودتها النشطة للمؤسسات الدولية، وانخراطها المكثّف في الشؤون الدولية، وفي تعزيزها للتعاون الدولي. ولإعطاء الانخراط الفاعل مجدداً في السياسة الدولية معنى وقيمة إيجابية، ولتعود قيادة أميركا للعالم تحظى بالمقبولية والمصداقية، فإن احترام المُثل العليا لحقوق الإنسان، والدفع بقيم الديمقراطية في أرجاء العالم، ستكون مكوّناً أساسياً للسياسة الخارجية الأميركية. وبالطبع، فإن إعادة الاعتبار لهذه المُثل والقيم سيُشكّل مدخلاً ملائماً لتوجيه النقد الدائم للصين وروسيا.
مع أن وثيقة «إستراتيجية الأمن القومي المؤقتة» التي أعلنتها إدارة بايدن مبكراً اعتبرت أن الصين تُشكّل التهديد الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة والعالم الحر والنظام الدولي الحالي، إلا أنها تركت الباب موارباً لإمكانية التعاون معها حين يتلاءم ذلك مع المصالح الأميركية. أما بالنسبة لروسيا فكانت الأولوية الأميركية تتمثّل بضبط قدراتها العسكرية، وخاصة النووية. لذلك أشارت الوثيقة بإيجابية لسرعة الإدارة بتجديد معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية مع الكرملين.
ما يمكن استخلاصه من رؤية إدارة بايدن الإستراتيجية لمرتكزات الأمن القومي الأميركي أن العالم يمرّ في خضم صراع ثلاثي القطبية، وأن الصين تُشكّل الخطر الإستراتيجي الأكبر على البلاد، يليها بالأهمية روسيا التي ترتكز بالأساس على قدرتها العسكرية، وخاصة النووية، في هذه المواجهة ثلاثية الأضلاع. ومع التحديات الجسام التي تواجه أميركا، إلا أن هذه الوثيقة تُقدّم رؤية تفاؤلية بالقدرة الأميركية على تخطيها بنجاح، وبالتالي استعادة مكانة ودور القيادة الأميركية للعالم.
وفي نهاية الأمر، فإن المهم في الأمر لا يكمُن في الإعراب عن النوايا، وإنما في القدرة الفعلية على تحويلها إلى واقع.