قراءة في فيلم "جذور"

الأربعاء 07 يوليو 2021 03:17 م / بتوقيت القدس +2GMT
قراءة في فيلم "جذور"



بقلم د. غادة الراعي – ناقدة سينمائية

تقول الكاتبة رضوى عاشور في رواية ثلاثية غرناطة "ان الحكايات التي تنتهي لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تُروى." و قد تأكد لي معنى هذه الجملة عندما شاهدت فيلم " جذور" الذي عُرض مؤخراً على شاشة تلفزيون فلسطين للمخرج مصطفى النبيه. 

هذا الفيلم وثائقي بنكهة خاصة، حيث أنه يوثق قصة كفاح مليئة بالحب: حب الوطن، حب الزوجة، حب الحياة، حب الحرية.

في فيلم "جذور" تأخذنا السيدة آمال أبو عمارة وزوجها في رحلة ممتعة عبر التاريخ من حيث الزمان والمكان. خلال الفيلم، نرى السيدة أمال تمشي في أحياء غزة القديمة، خاصة منطقتي الزيتون و الدرج و تحدثنا عن مولدها وتهجير عائلتها ونشأتها في غزة وغير ذلك من أحداث أثرت في حياتها. إن استحضار هذه الذكريات  مع تواجد البطلة في نفس مكان الحدث هو من أهم مميزات هذا الفيلم الذي سأتحدث عنه في قراءة نقدية خلال هذا المقال. 

يبدأ الفيلم بمشهد لحفلة بسيطة بعيد ميلاد السيدة امال في حضور زوجها السيد علي طقش، يستوقفنا دفئ هذا المشهد حينما نرى السيد علي يهنئ زوجته بحرارة ويطبع على وجهها قبلات تحمل معنى الوفاء والاحترام والتقدير لهذه المرأه التي شاركته رحلة حياته بحلوها ومرها. لم ينسَ المخرج أن يعطي هذه المناسبة الخاصة طابعاً وطنياً حيث كان علم فلسطين حاضراً في دلالة على أن كل معاني الحب والسعادة تنصهر في بوتقة حب الوطن . هذا المشهد الافتتاحي هو إختيار موفق من وجهة نظري، لأن المخرج بذلك كسر القالب النمطي الذي اعتدنا عليه في الأفلام الوثائقية والتي تعتمد في أغلب الأحيان على صور أرشيفية، أومقابلات أو زيارات ميدانية واستخدام لغة جافة مليئة بالإحصائيات والأرقام والتواريخ.  إن اختيار هذا المشهد كبداية للفيلم يجعله أكثر جذبا لإنتباه المشاهد وأكثر تشويقا فالناس بطبيعتها تحب مشاهدة المناسبات السارة، وبالتالي يكون لدى المشاهد رغبة في متابعة الفيلم ليعرف ما وراء هذا المشهد. 

"جذور" يجسد حكاية وطن بأكمله من خلال ذاكرة السيدة آمال أبو عمارة وزوجها، حيث يتناوبان خلال الفيلم في سرد الحكاية ..حكايتهما معا. وقد كان السرد متوازن حيث إن كل واحد منهما  كمّل ما يقوله الآخر، وقد أعطى المخرج مساحة كافية لكل واحد حتى يتحدث عن نفسه و ذكرياته واهتماماته واستطاع من خلال الصوت والصورة أن يعكس الحس الوطني الإنساني لشخصيات الفيلم. 

تبادرنا السيدة أمال أبو عماره في بداية الفيلم بالقول إنها من مواليد يافا - النزهة، ولكنها لا تعرف تاريخ ميلادها الحقيقي، لأن شهادة ميلادها الأصلية بقيت في يافا عام 1948، بالتالي يكون الاحتلال قد جردها من مكان وتاريخ ميلادها في سعيه لطمس هويتها واقتلاعها من جذورها. في الفيلم وقفت هذه المرأة شامخة تطالب بحقها في الحصول على شهادة ميلادها الأصلية. وهذا أبسط حقوقها كإنسانة. 

من أكثر ما يميز هذا الفيلم تعددية الزمان ومحدودية المكان و قد كان المخرج موفقا الى حد كبير في توظيف هذا العنصر.

فمن أهم المشاهد في الفيلم  تلك التي تظهر فيها السيدة آمال وهي تتجول في المكان الذي عاشت فيه طفولتها بحي الدرج بالقرب من المسجد العمري. هذا المكان يحمل ذكريات ماضيها و نشأتها كفتاة صغيرة لعائلة مهجّره ، لكن السيدة امال تأخذنا إلى ماضي ابعد، الى عمق التاريخ، عندما تتحدث عن يافا التي نسجتها في خيالها وعن برتقال يافا الذي سمعت الكثير عنه في حكايات اجدادها، ويعرِض الفيلم بالتوازي صور تحاكي برتقال يافا و كأن المخرج والبطلة يحاولان إعادة رسم حدود فلسطين التاريخية و يتمردان على قيود الواقع الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي. وقد تحدثت السيدة آمال و هي في قلب غزه عن  سينما الحمراء والبركة التي كانت في بيتهم في يافا، كل هذه الذكريات هي ذاكرة وطن واستحضارها بينما كانت السيدة امال تمشي في احياء غزة القديمة يعتبر عمليه توثيق رائعه . فكما تقول رضوى عاشور "تكتسب الاماكن معنى جديد عندما نعرف حكايتها". لقد رافقنا السيده أبو عماره في جولتها واستمتعنا  بقدرتها على المزج بين ذاكرتين ما قبل النكبه (يافا الجميله) و ما بعدها (اللجوء الى قطاع غزه) وهنا يبرز دور السينما كسلاح مقاومه. فعلى الرغم من قيود المكان، عشنا من خلال السرد داخل حدود فلسطين التاريخيه.

ايضا من المشاهد الجميله التي تجلى فيها معنى المقاومة تلك المشاهد التي رأينا فيها السيده امال تتمشى بين الاشجار المصطفة على جانبي الطريق وتتحدث عن صنوبر جدها في يافا، ثم يُظهرها المخرج في كادر رائع وهي تقف وكأنها جزء من الشجر و كأن جذورها مغروسة في الأرض مثله، كما نرى في الصور أدناه، وهذا استخدام موفق للكاميرا.

أيضا من المشاهد الجميلة التي جعلتنا كمشاهدين نحاول ان نتخيل و نستشعر جمالية يافا كما هي في خيال السيدة امال ذلك المشهد الذي كانت فيه تجلس في حديقة و امامها على الطاولة مفرش مطرز من "قماش يافا" و "انتاج يافا". كانت السيدة امال تلمس المفرش كقطعة أثرية فريدة من نوعها  و تتحدث عن جماله و ما يميزه عن غيره من المطرزات الحديثة ، وقد استطاع المخرج توصيل هذا الانطباع من خلال الكاميرا التي أظهرت تفاصيل المفرش و يد السيدة آمال تلمسه في لقطة قريبه المدى.

انتقل الان للحديث عن السيد علي طقش بطل الفيلم و بطل حياة السيده آمال ابو عمارة.

مما راق لي ان هذا الرجل كسر الصوره النمطية للرجل الشرقي الذي يخجل من التعبير عن حبه و احترامه لزوجتة أمام الناس و يعتبر ذلك انتقاصا لرجولته. لقد حضرنا حفلة عيد الميلاد ورأيناه في هذا المشهد وغيره من المشاهد يعبر عن حبه وتقديره لزوجته . ايضا كسر هذا الرجل بعفويته الصوره النمطيه في الإعلام للمناضل الفلسطيني الذي يتم الحديث عنه عادة و كأنه سوبرمان، البطل الذي لا يبكي ولا يخاف ولا يتأثر. قال السيد علي: "في خوف عميق جدا في داخلي"  وذلك بسبب الاحتلال الاسرائيلي والظروف الصعبة التي عايشها، وهذا يعني اننا كفلسطينيين مثل باقي البشر نخاف و نتوتر ونكرة لون الدم . لقد وصفت لنا السيدة امال كيف شعرت بالرعب عندما وقع قصف اسرائيلي بالقرب من مدرستها وهي طفلة و كيف تأثرت عندما رأت والدها يبكي .. نحن شعب مثل باقي الشعوب نحب الحياة ما استطاعنا الى ذلك سبيلا ونكره الموت و نخاف من الحرب ولا نريدها. نحن نعشق الحرية و ننشد السلام. لقد استوقفتني كلمه السيد طفش " بحب الحريه اكتر من اولادي" . في الفيلم تحدث الرجل وهو مستشار اقتصادي عن رؤيته في تحريك عجلة الاقتصاد الفلسطيني والاعتماد على الذات قال: "نحن شعب مش ذليل" لما يحولونا لشحاتيين هذا هو الاستعمار"..هذه الكلمات تستحق الوقوف عندها.

تحدث بطلا الفيلم عن قيمة التسامح والتعايش السلمي التي كانت سائده في فلسطين ما قبل النكبه حيث كان المسلمين والمسيحيين واليهود يعيشون مع بعضهم في سلام و كانت فلسطين مفتوحة على باقي البلدان .فماذا قلب الأوضاع؟  يقول السيد طقش " بتحبسني و ما تعطيني اكل ولما اثور بصير ارهابي!"  وكملت هذا المعنى السيدة امال حيث أطلت علينا بثوبها الفلسطيني ذو الألوان الزاهيه وقالت كلمه جوهريه " السلام اصعب من الحرب".

ونحن نستمع للسيدة امال و زوجها نشعر بحزن في نبرة صوتهما و هما يتحدثان عن طفولتهما التي خلت من سمات الطفولة بسبب انتهاكات الاحتلال الاسرائيلي التي طالت الأحياء والأموات، فكما قالت السيدة امال حتى المقابر لم تسلم من القصف الاسرائيلي "هما ورانا ورانا فوق الارض و تحت الارض....واحنا عايشين واحنا ميتين ما رحموناش" فهي لازالت الى اليوم تحاول معرفة مكان قبر والدها رحمه الله كما تحاول معرفه تاريخ ميلادها الحقيقي.

كل ما عايشته هذه السيدة لم يؤثر على انتمائها لوطنها فهي حاليا تهتم بجمع و حفظ وتسجيل الاغاني التراثية التي كانت النساء الفلسطينيات ترددها في الاعراس والمناسبات السعيده وكذلك الاغاني التي كانوا الاطفال يرددونها أثناء اللعب وفي مناسبات الأعياد، فهي تؤمن بأن الحفاظ على هذه الأغاني هو جزء مهم من الحفاظ على الهوية وتنمية قدرات الاطفال.  تقول السيده امال عن هذه الاغاني : "انها تأتي من عمق التاريخ وتلعب دور في تشكيل هويه الشعب ووجدانه". في الحقيقه هذا المشروع وغيره من أدوات الثقافة مثل صناعه الافلام هو فعل مقاومة بحد ذاته ويستحق الدعم من الجهات الرسميه و غير الرسميه من اجل حماية الهويه الفلسطينيه.

فيما يتعلق بالعناصر السينمائية في إخراج الفيلم، نلاحظ ان المخرج وظف عدسة الكاميرا بشكل رائع. حيث ركز على وجوه الشخصيات ليعكس كفاحهم وحبهم لوطنهم.

نلاحظ ايضا ان المخرج أعطى للبحر حضورا ساحرا في الفيلم حيث ظهر بحر غزة في لقطات بعيده ومتوسطه المدى  مما يعطي المُشاهد احساس بجمال المكان و اتساعه رغم انه مغلق و محاصر.

أرى ان حضور البحر بمشاهده الجميله هو اداه استخدمها المخرج لإراحه المشاهدين و تفريغ المشاعر السلبيه التي قد يشعروا بها عند سماع ذكريات مؤلمة تتعلق بالحرب و التهجير.  ايضا اراد المخرج ان يعكس جمالية المكان وان يقول ان على هذه الارض ما يستحق الحياه رغم أي شئ.

شاهدنا من خلال عين الكاميرا صورة جميلة لمدينة غزه أظهر فيها المخرج ازقه المخيم الضيقه مقارنه بالبحر ذو الافق الواسع  ورأينا الاسواق الشعبيه و المقبره و المنتزه و المسجد و ميدان فلسطين اضافة الى المعالم الاثريه في قلب غزه القديمه. اعتقد ان هذا الفيلم يمكن تصنيفه من الافلام السياحيه التي يجدر ان تحرص وزاره الثقافه على عرضها محليا و دوليا حتى يتسنى للأشخاص المهتمين بالتعرف على معالم غزة مشاهدته.

وقد ظهر في الفيلم العديد من رموز الهويه الفلسطينية مثل العلم و الكوفية والثوب الفلسطيني و فرن الطابون مع الأهازيج الفلسطينية.

بالنسبه للموسيقى التصويرية، هي جميله بحد ذاتها ولكن توظيفها في الفيلم لم يكن موفقا كثيرا، حيث ان المخرج استخدم في مَشاهد البحر الموسيقى التصويريه مع صوت امواج البحر و كانت الموسيقى التصويرية طاغيه. من الأفضل ان يكتفي المخرج بصوت امواج البحر فقط في تلك المشاهد لأنها تعطي معنى أعمق للمشهد.

واستخدم المخرج صور من الارشيف لتدعيم ما يقوله أبطال الفيلم، في اعتقادي، بعض هذه المشاهد لم يضيف كثيرا للفيلم و بالتالي لا داعي لها.

في نهاية الفيلم قالت السيدة امال لزوجها " لو مشينا الشط الشط بنوصل يافا" كأنها تؤكد ما قاله محمود درويش " هذا البحر لي ..هذا الهواء الرطب لي."

بعد مشاهدتي لفيلم "جذور" اقول ان هذا الفيلم يلخص حكاية شعب في قالب جميل. فنحن بالقلم و بالصوت وبالصورة نستطيع ان نفرض الرواية الفلسطينية و ننقلها للأجيال القادمة كما فعل الاستاذ مصطفى النبيه بالتعاون مع كل من شارك في هذا العمل.

في نهاية هذا المقال أرغب بالتأكيد على أهمية المشروع الذي بادرت به السيده امال والمتعلق بجمع و ارشفه الأهازيج والأغاني التراثيه الفلسطينيه و ادعو الحكومة للعمل عليه ، وصدقت هذه السيده الجميله بجمال يافا حين قالت: " طول ما احنا محتفظين بهذا التراث الثقافي عمرهم ما رح يكسروا اردتنا" وهي محقة جدا حين قالت: "السلام اصعب من الحرب".

 أتمنى للسيدة امال و زوجها موفور الصحة والعافية واتمنى ان تحتفل  يوما ما بعيد ميلادها الحقيقي حسب شهادة الميلاد الأصلية الصادرة من يافا. كذلك اتمنى للمخرج الرائع مصطفى النبيه كل التوفيق في اعمال جديده. هذا الفيلم يستحق المشاهدة.

الناقده د. غادة الراعي

ghada.raee@yahoo.com