بماذا يفكر الأمنيّْ عندما يُطْلبُ منه ومنها مراقبةَ و ضبطَ و تسهيل أو تشتيت تظاهرةٍ لمواطنين؟ هل يتلقى عِلْماً و تدريباً يحترمان حقوق البشر عند مواجهةِ الجمهور المُحتَج و معرفةِ لماذا يحتج؟ هل يكون معه من يستطيع الحوار؟ أم يتلقى أَمْراً مُسبَقاً بأن ينتظرَ أَمْراً بالعُنفِ مع المحتجين؟ لماذا الترقب المُريب كأنه وحشٌ يراقبُ فريسةً و التأهب المسلح كان هراوةً أو نارياً أو غازاً أو حجراً أو حِزاماً أو قبضة يد؟ كيف ينتقلُ من موقفِ المُنْضَبِطِ لِهَجْمَةٍ خاطفةٍ ضاريةٍ وعمياءَ عن رؤية البشر أمامه إلا أنهم أكياس ملاكمة؟ هل هو نفسُ الإنسان الذي أمس التقيتَهُ يشتري خبزاً؟ هل له أَبٌ و أُم و زوجة و أخوات و هل يلعب مع أطفالهِ و يبتسم؟ كيف يوائم بين وجهين وخُلُقَيْن واحدٌ ينْقُضُ الثاني؟ كيف يُواجه أهل بيته و وجهه بالمرآة و رَبَّه حين يسجد بعد أن لَكَمَ هذا و جَرَّ ذاكَ و أَسالَ دَمَ تلك؟
يأتي الأمْنيُّ في كل الدول بِمُسَمَيِّاتٍ رسميةٍ مختلفة مثل الشرطة والنجدة و الجيش و الحرس الوطني و الأمن المركزي و مكافحة الشغب و التدخل السريع و الأمن الوقائي و الدرك و الشرطة السرية و المخابرات العامة و هي كلها عناوين مُحترمة للقُوى المناط بها حِفْظ الأمن الوطني و كلها تستقطب رجالها و نساءها من عائلاتنا و معارفنا و حاراتنا بِمَعْنى أنهم نَحْنُ و لكن ليسَ تماماً. وهم حُلُمُ الأطفال وقُدْوتهم ومطمح آمالهم أن يصبحوا أمنيين وعسكراً. وهُم الملجأُ بلا شك لِأي مواطن من أي تهديد. لكن بعضهم يرمي في النفوس الحيرة حين ينقلبون من حالٍ مُؤتَمَنٍ عليه لحالٍ يُخشى منه. لِحالٍ تأَسفُ منه وعليه.
ربما كان في أنفسنا هذا الشيء المُختفِ الذي يجدونه أو يُخْلَقُ لهم في مسار التدريب والخبرة العملية. وربما كان هذا المُختفي في نفسنا رغْبَةَ التوحش التي تظهرُ وتختفي فينا حسب ظروف اليوم من صغيرها لكبيرها. أن تصرخ بوجه سائقٍ ضايقك في الشارع ولدرجة أن تقف وتقاتله وربما تقتله. كلنا مارسنا هذا الشعور والحمد لله أن أغلبنا يُغالبهُ وينقضي المشوار بسلام. لكنه عند رجال ونساء الأمن مَلَكَةٌ مُدَرَبَةٌ مُسَيطَرٌ عليها بالتدريب والوازع وبالأَمرِ والنهي خِدمَةً لغَرَضٍ شريفٍ و هو حفظ الأمان واتباع سياسةٍ من سُلْطةٍ حاكمة. نحنُ هُمْ في المشاعر الوطنية والخوف من الفوضى لكنهم عند مواجهة جمهور المحتجين يرون جانباً من هذه المشاعر وهو الجانب الذي يُريدُ المسؤول منهم أن يروه ويلتزموا به بينما يرى المحتجون جانباً آخر ربما كان وجيهاً عادلاً وربما كان همجياً. مثلاً، الاعتراض على نتيجة مباراة بين فريقين بالاحتجاج العنيف هو همجيٌ، على الأقل من وجهة نظري. والاحتجاج على قرارٍ أو أمرٍ سياسي هو حقٌ مباحٌ بكل الدساتير. مقياس العدل هنا هو في السماح بانتقاد نتيجة المباراة والسياسة والسياسي عبر التظاهر دون عنفٍ من أي طرف. وتتطلب السيطرة على الهمجية قوةً مناسبةً تحتويها وتوقفها. وتتطلب مواجهةَ محتجين سلميين حِواراً قد يكون سياسياً وقد يكون اجتماعياً و يجب أن لا يتطور الحوار لشجار.
لَيْتَ الأمر كان بهذه المثالية!
لدى كل حكومات الدول قاطبةً هذه القوى الأمنية وكلها غالباً استعملتها لإدارة مسار المحتجين ولتشتيت التظاهرات حينما تخرج عن وقتها المحدد أو هدفها المعلن وعزل المحتجين عن غيرهم من غير المحتجين وكلها ينطلق من مبدأ الحفاظ على الأمن العام. وكل دول العالم رأت محتجين مشاكسين وحضاريين ورأت تعاملاً أمنياً صديقاً وكاسراً للكرامةِ والعظام. وممارسةُ دولٌ عن دولٍ في تنظيم الاحتجاجات مسألةٌ واضحة فهناك دولٌ يترأس منهجها مبدأٌ دستوريٌ وقناعةٌ مجتمعيةٌ وفرديةٌ بممارسة الحريات ودولٌ تَدَّعِّي الحريات ولا تسمح بممارستها إلا مُقيدةً لكنها تُسَّوِّقُ نفسها لغايات الدعاية الدولية حاضنةً للحريات ودول لا ترضى بغير حكم الحاكم فلا حريةَ إلا ما يقول ويسمح به. وكل هذا مقبولٌ في عالمنا من بوابة أنه الموجود. لكن ممارسة العنف مع المحتجين بها نسبيةٌ تتصلُ ونوع الحكم وقد تخطئ أقدم وأعرقَ الديمقراطيات في ارتكاب مجموعةِ أفعال ضد محتجين كمثل ما رأينا في الولايات المتحدة بعد مقتل جورج فلويد حينها استخدمت الشرطة عنفاً شديداً مع المحتجين والإعلاميين. لكنها لا تُخطئ طويلاً فبحكم نظامها يتفاعل الجهاز التشريعي والقضائي والتنفيذي لوضع ضوابط ودرجات أمان لأن الحرية تأتي في المقام الأول.
شَكَّلَ مقتل جورج فلويد تحت رُكبةِ شرطي أمريكي بداية حركةَ “حياةُ السود مهمة” وحوكم الشرطي وسيقضي سنواته الثنتين والعشرين القادمة في السجن. وخلال حرب غزة الأخيرة ظهرت عبارة “حياة الفلسطينيين مهمة” وانتشرت معها الدعوات لوقف العدوان الصهيوني. وقبلها منذ سنواتٍ في تونس انتحر بائعٌ بعد ضربه من عنصر أمن فاهتز الشرق الأوسط بربيعٍ موجع. لكن اقتياد وضرب ومقتل المحتج نزار بنات في فلسطين بعد اعتقاله يمثِّلُ شناعةً بوزنِ الكبائر. أن يتغول الأمنيُ ببلدٍ مستقل مُكونٌ على أُسسَ حاكميةٍ واضحة ومتوازنة على محتج مسألةٌ مرفوضةٌ عموماً وتؤدي لسلاسل قانونية مُختلَفٌ على نجاعتها و قد تنجح لكن أن يقتل أمنيٌ يخرج من رَحِمِ مشروع تحريرٍ وطن رجلاً أعزلاً إلا من رأيه مسألةٌ لا توازيها قباحةٌ إلا كبائر المحرمات.
لا أفهمُ هذا الأمنيُّ الذي قتلَ والذي في الأيام التاليةِ اعتدى واعتدت على محتجين خرجوا ضد هذه الجريمة. لا أفهم عقله ولا عقل مسؤوليه و لا مجتمعه الذي أرسله بوجهين واحدٌ يناقض الآخر. واحدٌ يَحْلِفُ للحرية ضد المحتل وواحدٌ يقتلُ فيخدم المحتل. ولا أعتقد أن علماء الاجتماع والمسؤولين ببلادنا يهتمون كثيراً لفهم هذه الازدواجية الشيطانية. كيف يتحول الإنسانُ العربي إلى وحشٍ يفترس أخيه وأخته بلا تردد وخاصةً ببيئةٍ كل من فيها سُجناء للاحتلال؟ ما هو المنهج العقيدي القيمي التربوي والتعليمي و الأُسَرِّي و المُجتمعي و المِهَني الذي يستطيع أن يُخْرِجَ الأسوأَ في هذا الإنسان؟ كيف تمتد يده و يدها لتصفع و تضرب و تسحل و تقتل دون وقفةٍ مع الضمير و العقل؟ أكاد أتطوع بالجواب أن المؤسسات هي التي تُخطِأُ حين تتعمد حجب الضمير والعقل وتزرع مكانهما مهارة الطاعة للأمر وتنفيذه بكل ضراوة. وعند صدور الأمر تُطوى صُحُفُ الحقوق والتسامح والمواطنة العادلة. إذاً الخلل ليس فقط بِمَن تحول وحشاً، بل هو بدايةً بِمَن صَيَّرَهُ وحشاً. وآسف أن نستنتج أننا لسنا ببلادنا إلا مشاريع وحوشٍ وفرائس، كلٌ ينتظر دورهُ. هذا هو النظام التربوي والمجتمعي الذي يسود: كُنْ ذئباً وإلا أكلتك الذئاب (والذئابُ لا تأكل بعضها!). هذه وصفة فناء الحضارة ويجب على المؤسسات و العلماء أن يدرسوا و يقولوا بالتغيير.
كاتب اردني ودبلوماسي اممي