بعد أن قرأ صديقي مقالي السابق بعنوان (عريضة المثقفين وسؤال التغيير)، والجزء الثاني (عريضة المثقفين واستبدال سلطة «فتح» بسلطة «حماس») كتب يقول: «هذا تحليل بعيد جدا عن الواقع، ومنطق موقفك هو الحفاظ على الموجود لأنه أفضل». أجبته على عجل: أنا مع التغيير من موقع مستقل، ومن تحت ووعدته بأن أوضح مفهومي للتغيير في المقال القادم.
كثيرون يريدون التغيير لكنهم يختلفون على طبيعته ومستواه وأدواته. الطبيعة تكره الفراغ كما قال أرسطو، وإذا تركت فراغا ستجد من يملؤه، وإذا لم تغير نفسك، ستجد من يقوم بتغييرك، وإذا لم تتمكن من تغيير الآخر، فبادر الى تغيير نفسك، كما تقول نظريات في علم الاجتماع. نداء التغيير في واقعنا الفلسطيني يملأ حياتنا ويحس المواطن بأهميته، مع كل خطأ وقصور وعجز وفشل، ومع كل مس بالكرامة الإنسانية، ومع كل ظلم واضطهاد يأتي من الخارج (الاحتلال) ومن الداخل (القوى الاجتماعية الرجعية). عدم التغيير وبقاء الأوضاع على حالها يقود الى انهيار ويسمح بأشكال من الوصاية الخارجية التي غالبا ما تفرض وكلاء لها ضمن أجندات مناقضة لمصالح السواد الأعظم من المواطنين. بالقطع، لا يلزم الواقع الفلسطيني التغيير للأسوأ او التغيير دون مضمون حيث تكون النتيجة استبدال تسلط بتسلط.
يملك الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ونخبه الثقافية تراثا تحرريا مهما، لا يزال يفعل فعله في الصراع مع الاستعمار الصهيوني، ولا يعني التكلس والانغلاق والفساد واللاديمقراطية والأزمة التي تعيشها البنية السياسية الحالية، شطب ذلك التراث بمختلف رموزه أو إعادة اختراع تراث جديد يقتصر على الإسلام السياسي وتاريخه اللاديمقراطي المنغلق. كانت مأثرة حزب المؤتمر الإفريقي وزعيمه التاريخي نيلسون مانديلا إحياء كل الإيجاب في تراث المجتمع الجنوب إفريقي بمختلف قواه بما في ذلك القبائل السابقة، والبناء فوقه. وعندنا، شهد النصف الأول من القرن العشرين دورا مميزا للنخبة الثقافية كما جاء في كتاب د. ماهر الشريف (المثقف ورهانات الحداثة 1908- 1948) عندما قدمت النخبة فكرا حداثيا تحرريا، عَرَّفَ المشروع الصهيوني ومخاطره وفصل بين الديانة اليهودية والمشروع الاستعماري الصهيوني، وكشف علاقته الوثيقة بالاستعمار البريطاني. ونقد القيادة التقليدية مبينا أخطاءها النابعة من مصالحها. وعزا قسطنطين زريق النكبة أساسا لتفوق نظام صهيوني حديث على نظام تقليدي قديم. لذا، دمج المثقفون الفلسطينيون مهمة محاربة المستعمر البريطاني والمشروع الصهيوني بمحاربة التخلف والجهل، وبإزالة القيود المفروضة على العقل. ونقدوا التعصب الديني وانحازوا لرواد الإصلاح الديني الذي يغلب العقل على النقل، وأنشؤوا صحافة تبث الوعي الوطني وفكر الحداثة، وقدموا نموذجا للتعليم التحرري الذي بدأ بفصل حقل التعليم عن حقل الدين واعتمدوا أساليب ومناهج تعليم حديثة في المدارس والكليات الخاصة، وقاموا بنقل تجارب التعليم المتطورة. هؤلاء حددوا ناظما وهدفا للتغيير هو التحرر الوطني والاجتماعي، فكان مشروعهم يعتمد منهجية الهدم والبناء.
اختار الموقعون على العريضة الهدم وهم يعلمون كما تعلم الأكثرية المؤيدة لحركة حماس عبر استطلاع الرأي العام الذي نفذه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أثناء هبة القدس وحرب غزة. إن استقالة أو إقالة الرئيس من السلطة والمنظمة وحركة فتح يعني التغيير من فوق، يعني انتقال مركز القرار الى حركة حماس التي تحظى بإعجاب أكثرية الشعب لأنها أطلقت الصواريخ وأهانت الغطرسة الإسرائيلية خلال أحد عشر يوما برغم الثمن الباهظ، وقد يكون الإعجاب مؤقتا بعد إبرام هدنة طويلة الأمد او لعدة سنوات يتم خلالها شطب الخطوط الحمر والانفصال مجددا عن مقاومة المواطنين للتطهير العرقي واقتحامات المسجد الأقصى في القدس، والاستيطان والتهويد والقمع الدموي في أنحاء الضفة. لم يأخذ الموقعون على العريضة في الحسبان ان حركة حماس هي محط شبهة سياسية لكوادر التنظيمات السياسية الفلسطينية كونها لا تملك مشروعا للتحرر الوطني، فهي تتفاوض على هدنة طويلة الأمد مقابل تكريس سلطتها في قطاع غزة، وتعتمد مركز الإخوان المسلمين كمرجعية، هذا المركز الذي اعتمد التطبيع في المغرب، وشارك المحسوبون عليه في حكومة بينيت العنصرية، وسبق ان اعتمد اتفاقات «كامب ديفيد» عندما فاز في انتخابات البرلمان والرئاسة المصرية. وتعتمد «حماس» على النظام الإيراني كمركز إقليمي من جهة أخرى. ومن المفترض أن تكون حركة حماس محط شبهة الانتماء للرجعية المحافظة لدى النخب الثقافية كونها تتبنى المدرسة الدينية للإخوان المسلمين التي تقيد العقول والحريات وتمارس طقوس التحريم والتكفير والترهيب لإخضاع المواطنين، وتميز بين الأديان وتميز ضد النساء وتناهض الفنون ومنظومة حقوق الإنسان. لا اعتقد ان اكثر الحريصين والمستعجلين على التغيير ويتبنى فكرا تحرريا يقبل نقل السلطة لحركة حماس وهي بهذه المواصفات غير الآمنة. او يقبل بنقل السلطة دون شروط دعاوية على الأقل بأن تكون حركة حماس ديمقراطية وتعددية ومستقلة، وليس ان تُعطى التحكم بالمصير الفلسطيني لمجرد أنها تطلق صواريخ كل 4 أو 6 سنوات.
كان يمكن طرح التغيير من فوق، في حالة قطع شوط في بناء مقومات التغيير من تحت، كقطع شوط على صعيد بلورة فكر وثقافة التحرر ونشرهما، للأسف تسود ثقافة محافظة وتتولى «عشائر وعائلات وقوى» مقاومة كل تغيير ديمقراطي وكل انفتاح على الحداثة الإنسانية. استغرب هنا قول د. خالد الحروب في معرض رده على منتقدي العريضة «بأن أفكار الإصلاح وإنهاء الانقسام وإعادة بناء (م.ت ف) المنجزة ترقى الى موسوعة ويمكن أن نرشحها للدخول في موسوعة غينس»، ويرى الحروب أن المعضلة في التنفيذ والتطبيق. اعتقد أن هذا التشخيص هو جزء من أزمة الإصلاح والتغيير. كان المطلوب من المثقفين والأكاديميين تقديم إجابة، لماذا يتعثر الإصلاح في بنية المنظمة وتنظيماتها وفي المؤسسات الفلسطينية الحكومية وغير الحكومية. ولماذا أعيدت الاتحادات الشعبية الى داخل قبضة التنظيم الحاكم دون رد. لماذا يحجم الكتاب عن تأسيس رابطة مستقلة تمارس دورها في النقد وفي تفعيل الجسم الكبير لهذا القطاع. ولماذا لا تكون رابطة فنانين مستقلين، الشيء نفسه ينطبق على النساء والشباب والعمال. عندما تكون الاتحادات معطلة ومسيطرا عليها من قبل المستوى السياسي، هذا يبرر انبثاق أجسام مستقلة انتقالية تستعيد الدور. ان فكر الإصلاح مهما كثر وعظم شأنه وصولا الى غينس لا قيمة له دون حامل اجتماعي ثقافي سياسي. فعندما يقيد نظام التعليم عقول مليون وربع المليون طالب وطالبة بمنهاج تعليم بنكي ولا يخوض المثقفون والأكاديميون معركة تطوير التعليم يصبح الحديث عن الإصلاح بلا معنى. وعندما يترك نصف مليون عامل وعاملة بلا نقابات وبلا مؤسسة ضمان اجتماعي او اتحاد عمالي يدافع عن حقوقهم، يصبح لا قيمة لأوراق الندوات والأبحاث المنفصلة عن الجهة التي لها مصلحة في نيل حقوقها. الشيء نفسه ينطبق على مقاومة الاستيطان والتطهير العرقي، دون مقاومة مئات المواطنين في القدس وفي كل القرى التي استهدفت بالبؤر الاستيطانية ما كان للمفاوضات والشكاوى ان تزيل بوابة او بؤرة واحدة. أمامنا طريقان للتغيير طريق الانقلاب من فوق الذي يستبدل سلطة بسلطة، وطريق التحويل الديمقراطي من تحت الذي يؤدي الى نظام ديمقراطي. تحرري.mohanned_t@yahoo.com