الخروج من الثنائية..غسان زقطان

الإثنين 14 يونيو 2021 10:35 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الخروج من الثنائية..غسان زقطان



هذه الملاحظات هي محصلة انطباعات ولا تدعي أكثر من ذلك.
تغير مشهد الكتابة الفلسطينية، تغير بشكل جذري وهادئ عبر سنوات طويلة من تراكم التجارب، تفككت المصادر تماماً، تبدو مفردة «تماماً» قطعية هنا ولكنها مقصودة، وهي جزء من محاولتي في هذه القراءة للتخفف من المصطلح النقدي والاقتباسات النظرية، والاعتماد قدر الإمكان على الذائقة الشخصية والمتابعة، التي أدعي أنها اتسمت بالاهتمام والبحث.
ثنائية الوطن والمنفى الصلبة التي حكمت الاتجاهات الرئيسية في المشهد الشعري الفلسطيني، وشكلت مصادره أيضاً، تفككت هيئتها الصارمة التي مررها «شعراء النكبة» لـ»شعر المقاومة» وصولاً لـ»شعراء الثورة»، وانفتحت على تيارات أخرى كانت موجودة خارج الضوء.
التحولات التي طرأت على «المنفى» الفلسطيني تركت أثرها بطرائق مختلفة على «الشاعر المنفي»، تأثيرات يمكن ملاحظتها في النصوص الجديدة بقوة، حررتها من الحمولات التقليدية التي اقترحتها أجيال النكبة وعززها عقد السبعينيات. لم يعد المنفى ضيقاً ومحصوراً في «المخيم»، ولم تعد «المقاومة» نقيضاً للمنفى.
المنفى كان يتحرك بوتائر مختلفة خارج صفاته الساكنة والمحفوظة، تعدد وانفتح على تجارب جديدة، تجارب بصرية وثقافية وحوار عميق مع مشاهد ولغات تمتلك إيقاعات واهتمامات جديدة، وهواجس مكتسبة وثقافات مختلفة، لم يعد، المنفى مصدراً للألم والحنين والتفجع، ها هو يقدم معرفته أيضاً ويبدو اختياراً شخصياً في مستوى ما.
لا أتحدث عن عملية استبدال هنا، بقدر ما أقصد أن الشاعر الفلسطيني لم يعد ضحية ملحقة بمنفاه، ولم يعد النص ضحية إدراك الشاعر وامتثاله لاقتراح السياسي، بقدر ما حول المنفى إلى منطقة بحث، اكتشف عبرها قوة المنفى وإمكانياته وألحقها لتجربته.
المقصود هنا تجارب بعينها، استطاعت التأثير عبر تقديمها قراءة جديدة، في كتابتها، وتجاوزت زمن الظاهرة وشروطها لتشكل اقتراحاً جمالياً ومعرفياً متعدداً ومختلفاً للمشهد.
أتحدث عن تجارب يمكن ملاحظتها في المشهد مثل غياث المدهون ورائد الوحش وأنس العيلة وجمانة مصطفى وسامر أبو هواش وفادي جودة والراحل جهاد هديب، وآخرين طبعاً.
بينما تعمق «المكان» الفلسطيني، الضفة الثانية للثنائية، ولم يعد مجرد أرض محتلة بحاجة للمخلص، أو مشهد بلاغ يتغذى من لغة سلفية ويعوض نقصانه بالرطانة وإعاذة صياغة مخيلة السياسي.
يمكن أن نشير هنا، في فقرة اعتراضية، إلى نفوذ وتأثير جيل الثمانينيات الذي أظن أنه أسس لمرحلة انتقالية شملت بنية القصيدة وذهب إلى مواضيع غير مألوفة وخارج السائد والمتعارف عليه، ولعل مساهمته الأهم كانت في أنه منح «شرعية» لقصيدة النثر الفلسطينية، في امتداد لمساهمات مبكرة لم تعط حقها لجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ.
لا أتحدث عن اتجاه متفق عليه وحوله، أحاول وصف الأمر بتيارات متقاطعة تكاد تكون مستقلة، وتجارب مختلفة ومتحررة من ثقل «المسؤولية الوطنية» بتعريفها السياسي الصغير، هي اقتراحات جديدة تماماً اختارت مصادرها واستفادت من «المنجز» ولكنها لم تخضع لشروطه، ووسعت مصادرها بحيث بدت تجربتها الشخصية وذاكرتها الفردية أكثر وضوحاً في النص، ومنحت «السرد» مكانة مؤثرة في المشهد الشعري.
نصوص قريبة من الحياة الشخصية، تقترب من السيرة، ليس عبر روايتها ولكن من خلال تحويلها إلى معرفة.
سيختلف، على سبيل المثال، مخيم وليد الشيخ عن مخيم أحمد دحبور. وستبدو «نابلس» مدينة محافظة وغير متسامحة في نصوص طارق العربي، لعلها أقرب إلى سيرة فدوى طوقان، من الفكرة المتداولة «جبل النار» التي احتفى بها الشعر الفلسطيني، سيقدم «مدينته» في مشهد مبكر وهو في طريقه إلى سوق الخضار حيث يتجول الحمالون بذكورة مضاعفة.
لقد منح المشهد المدينة بعداً أعمق وعزز قوتها وسمح لها أن تتنفس في بنية النص.
يمكن هنا إدراج أسماء مثل وليد الشيخ وطارق العربي وأسماء عزايزة وداليا طه، ناصر رباح ...، أحاول تجنب مواصلة تعداد الأسماء لمعرفتي أن القائمة تضم أسماء أخرى.
«الانتفاضة الكبرى» التي منحت الناس ثقة عميقة، عبر إدراك أنها ابتكار شعبي جماعي وليس برنامجاً فصائلياً، اتفاق «أوسلو» الذي سمح للمخيلة الشعبية أن تتحرر من فكرة «البطل المخلص» الذي سيصل من المنفى من جهة، وسمح بتحول الوطن الساكن في مخيلة المنفى إلى مكان حقيقي، من جهة ثانية، وقصيدة النثر التي أغنت النص الشعري الفلسطيني بانفتاحها على السرد، والتجريب والتقنيات الجديدة، وتفقد الذاكرة وطبقات اللغة.
تلك أيضاً عوامل مؤثرة وواضحة في المشهد.

* مساهمتي في الملف الذي أعده الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري تحت عنوان «شعرنا (العربي) المعاصر إلى أين؟» في القدس العربي/لندن، وقد شارك فيه شعراء ونقاد من مختلف البلاد العربية. من فلسطين شارك الناقد فخري صالح والشاعر نمر سعدي.