زمان ، و أنا في العشرينات من عمري كنت أعتقد أن السياسيين ، و القادة ، مختلفون في طريقة تفكيرهم ، سلوكهم ، نمط حياتهم ، إلى أن شاءت الأقدار ، و تمكن الفلسطينيون بإنتفاضتهم أن يجلبوا قادتهم ، تلك الإنتفاضة التي بنيت على تصور كذاك الذي كان غائر الأثر في نفسيتي و مخيلتي و إعتقادي ، فكان من أهم أنجازات إنتفاضة شعب فلسطين ، نقل الثورة و الثوار و القادة من الملاجئ و الشتات إلى داخل فلسطين ، و علي هنا أستعير ما سمعته شخصياً من فم ياسر عرفات في كلمة القاها في أوائل عودته إلى غزة ، شكلت بالنسبة لي على الأقل منهاجاً ، و مفهوماً جديداً ، حين قال أن الثورة الفلسطينية على العهد كما كانت ، و النضال مستمر، و لكن بأدوات و أساليب جديدة . و تذكرت حينها مقولته الشهيرة الرائعة التي أطلقها في الجزائر ، في لقاء على هامش المجلس الوطني الفلسطيني و بحضور قيادات فتح التاريخيين إلى جانب حكيم الثورة جورج حبش و نايف حواتمة و غيرهم من المفكرين و المثقفين و الإقتصاديين الفلسطينيين و العرب و قادة الفصائل و التنظيمات الفلسطينية ، و اللطيف أن هذا اللقاء كان يديره الفنان المصري العروبي نور الشريف ، أخذ أبو عمار الميكروفون ليعلق على كلمات الشاعر العبقري محمود درويش ، فقال : "عظمة هذه الثورة، إنها ليست بندقيه، فلو كانت بندقية فقط لكانت قاطعة طريق، ولكنها .. نبض شاعر .. و ريشة فنان.. و قلم كاتب .. ومبضع جراح .. و إبرة لفتاة تخيط قميص فدائيها وزوجها" فضجت القاعة بالتصفيق ، و داعب درويش أبو عمار قائلاً ، أخي القائد العام و الشاعر العام ياسر عرفات ..
كلمات ياسر عرفات السابقة و اللاحقة ، إجتاحت مساحات واسعة من وجداني و أعادت تموضعي في زاوية رؤية تجاه قضيتي، وبخاصة حين وضعت العبارتين معاً ، و الأهم ، أنها – في حينه – رسخت عندي مفهوم إختلاف طبيعة القادة ، و تميزهم و عبقريتهم و فدائيتهم ..
كنت في العشرينات ما زلت أبحث عن ذاتي شأني شان أي شاب في سني ، يبني شخصية و هوية ، فبين الفكر اليساري و الديني و العلماني الذي كان رائجاً في الثمانينات ، وبين الفكر القومي و الإشتراكي و الوحدوي الذي ورثته عن أجيال سبقتني ، و بين قراءات في كتاب حسن البنا و مدرسته الإخوان المسلمين، و لقاء الثلاثاء ، و معالم في الطريق لسيد قطب ، و بين فلسطيني بلا هوية - لأبو إياد صلاح خلف ، و لماذا أنا فتح ، و بين قراءات للينين الدولة و الثورة ، وآية الله روح الله الخميني ( الحكومة الإسلامية ) ، و غيرها من القراءات الفلسفية كالذباب لجان بول سارتر ، و قصص أجاثا كريستي الممتعة ، و أشعار نزار قباني الرومانسية الصريحة ، و عبقريات محمود درويش ، و سميح القاسم ، و إميل توما ، و أمل دنقل ،وعباس محمود العقاد ، و الشيخ الشعرواي ن علي الطنطاوي و كتابت و رحلات و تجارب أنيس منصور ، و تأملات مصطفى محمود و أغاني عبد الحليم حافظ المجبولة بروح صلاح جاهين ، و عبد الرحمن الأبنودي ، كل هذا مضاف إلى عبق الإنتفاضة المخيم على أجواء البلاد ، و نشوة عودة القوات الفلسطينية بالزي العسكري ، و الكلاشنكوف الذي مثل و مازال علامة مميزة و أيقونة ترمز لطهر الكفاح المسلح . كل هذا شكل أنشودة عشتها وربما أقراني في تلك الفترة ، و حدد معالم منطق سيطر علينا و ثقافة تشربناها و عشناها .. ولكن ..
سرعان ما بدأ هذا الأمل ، و تلك الفرحة تبدو و كأنها سراب ظنها الظمآن ماء .. كلما إقتربت من ( القادة ) باحثاً عن الفكرة ، عن المنهج ، عن أي بيت في أي قصيدة لدرويش ، عن أي لحن فيروزي ، أو جملة صدح بها حليم ، مرسيل خليفة أو فرقة العاشقين ، لا أجدها ..
هنا أرتطم الحلم بالواقع ، و النظرية بالواقعية ، و المأمول بالممكن ، و بدأت تتسرب في ثنايا العبارات ، و بين أسطر المناهج الفكرية كلمات من نوع آخر ، كلمات مثل : براجماتية ، فن الممكن ، إدارة الأزمة ، أزمة الإدارة ، خذ وطالب ، منطق الأشياء و غيرها من العناوين و الشعارات و المساقات .. كل هذه الجمل الإعتراضية ، و كل تلك الكلمات شكلت مجتمعة بقعة زيت عائمة على سطح محيط العقيدة الأساسية ، حجبت جمال ما تحتها ، و قتلت ما في الداخل من حياة و ثروات ..
بدأنا نسمع لأول مرة جملاً و عبارات ، بل مفاهيم تخللت فينا و سارت في عروق أبداننا كالعائدين ، و أبناء الصمود ، و التوانسة ، ثم تطور الأمر حتى صار الفلاح و البدوي ، و الجنوبي ، و الغزاوي ، و المهاجر و اللاجئ ، و المواطن ، ثم تطور الأمر فأصبح غزة فتح لاند ، و غزاوي و ضفاوي ، ناهيك عن ما كان قد وقر سابقاً في الوجدان من فكرة ( عرب إسرائيل ، و الخط الأخضر ، و 67 ) . و أذكر أن ياسر عرفات في تلك لفترة ، تنبه لخطورة هذا الوضع ، فأراد أن يحدث أكبر عملية ( خلط ديمغرافي وطني ) بأن ينقل الموظفين بعائلاتهم بين المحافظات ، فوكيل نيابة من غزة ، يخدم و يصحب زوجته و أبنائه إلى طولكرم ، و مهندس من رام الله ، ينتقل للعمل و أسرته و يلحق أبناءه في مدارس غزة ، و مدرس من جنين ينتقل و أسرته إلى بيت لحم و هكذا .. ولكن إسرائيل وضعت الف الف عقبة أمام هذه الخطوة الثورية التي كان يمكن أن تقتلع الدرن قبل أن يكبر و ينتشر و يتعفن ..
بدأ هنا ، في ظل هذا التشتت الثقافي الإجتماعي ، يتغلل و يكبر و يتعاظم فكر ( الأممية ) ليناطح فكر ( الوطنية ) و بما أن المجتمع عربي فلسطيني ، بطبيعته يرفض الفكر الأممي اليساري و الشيوعي ، فكان من الأسهل و الأنجح إستخدام الأممية المرتكزة على الدين ، و بدأت هجرة فئات من المجتمع كالشباب و المسيحيين ، إلى مجتمعات في الخارج ، بحجة البحث عن حياة أفضل في ظل ديمقراطيات و حقوق إنسان ، و بدأت هجرة الوطنيين إلى قواقع و فقاعات هوائية نسجتها حقائق جديدة ، فقاعة الوظيفة ، و فقاعة ( العودة و البناء ) و فقاعة ( السلطة ) و فقاعة ( البراجماتية و الواقعية و إستراتيجية السلام ) و هنا إلى جانب نشاط الخط الديني ، نشط الطابور الخامس ( الجواسيس المنمقين ) المؤطرين بجمعيات و مؤسسات لم تترك حرفاً في الأبجدية الأمريكية أو البريطانية إلا و إستخدمته تارة تبحث عن حق الإنسان في التعبير ، و حق المرأة في المشاركة و المساواة بالرجل ، و مرة عن إنقاذ الجريح و الغريق و مرات لمساندة المشاريع الصغيرة ، وكلها حق ، و كلها خير ، ولكن بعضها أراد من كل ذلك الباطل ..
و الغريب ، أن هذا البعض ، كافٍ لإصابة الكل ، فنقطة سم واحدة ، كفيلة بطرح فيل ، و فايروس مكون من خلية واحدة ، كفيل بقتل إنسان .
إنسحب كل ما بنيت في عشرينات عمري من فكر و عقيدة ، و تراجع مع ما بنيت أو عل الأدق أن أقول تم بناءه من حولي ، فعاد كجدران المعتقل في الثلاثينات ، فتسللت في الأربعينات من عمري هرباً من هذا المعتقل لأحول ما بقي عندي من ذاكرة و فتات عقيدة و ثقافة إلى ( حكاوي و ذكريات ) أختصرها و غيري من أبناء جيلي بين فينة و أخرى ، بوضع صورة لأبوعمار ، أو بيت شعر لدرويش أو أغنية لحليم على صفحة الفيس-بوك ، ثم تطور في الخمسينات من عمري ليتحول إلى سطور أكتبها كما هو الحال الآن .. و أعرف مسيقاً أنني و غيري ممن يفعلون ذلك إنما نحفر في الماء .
إن هذه الصورة الملوثة ، التي وصل إليها حالنا ، و هذا الإنقسام الذي نعيشه ، لم يكن أبداً وليد فكرة شيطانية وضعها دهاة الصهاينة ، بل كان نتاج ما بناه خبثاء الصهاينة على ما تأصل فينا من إنقسام ، و إدهان ، وما أستشرى فينا من ثقافة مخالفة تماماً لما غرسه ياسر عرفات في وجداننا و لما شكله تاريخ نضال طويل لشعبنا ..
اليوم ، بإسم الله ، ترى من يحاور و يناور ، على كم وكيف حصته في منظمة التحرير .. و المجلس الوطني الفلسطيني ، الذي إنطلق منه أبو عمار و الحكيم و حواتمة و صاغ فكرهم درويش .. هم لا يعرفون عن هذا شيئاً ، و إن عرفوا ، لا يفقهون .
ببساطة ، كل ما تحتاجه فلسطين الآن ، هو عودة الروح ، عودة مفهوم ( الفلسطيني الواحد ) دون تمييز جهوي أو عقائدي يمهد لإنقسام يؤدي إلى تحولنا إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية .
المطلوب الآن ، العودة إلى مفهوم ( إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني ) .