بعد أن صمتت المدافع وكمّمت أفواهها “بشريط لاصق”، وأفسحت غربان الجو الحديدية السوداء اللاهبة الكبيرة، الممهورة بنجمة داوود السداسية، مكانا جوّيا للحمام والعصافير كي تطير وتُرفرف مجدّدا في سماء قطاع غزّة، وتنفّس الناس الصعداء، شوهد في اليوم التالي من وقف اطلاق النار يحيى السنوار و”ثلّة من رفاقه” وهم يجوبون شوارع غزّة، بعزّة وشموخ وتواضع.
يُلقي التحية على المارّة والمتواجدين في الشوارع وعلى جنباتها، يمينا ويسارا، وبسمة تعلو ثغره، يتمنّطق ببنطال وقميص يميل لونه للزرقة، ويمشي بحركة عفوية “قياديّة” راقية زاهية.
ليس بالضرورة أن تكون حمساويّا حتى تحترم هذا الرجل وتقدّره وتُثني على أدائه، فقد عاش و”عمل” وقاد أيّاما خلت تحت الأرض، لسبب واضح ومعروف ومعلوم، فالطائرات الإسرائيلية المعتدية المغيرة على “كلّ مغز إبرة” في قطاع غزّة كانت تبحث عنه، تجهد في متابعته، “تلهث” من أجل الوصول إليه، لكنه احتاط وأخذ بالأسباب، وسلّمه الله وخصّه و”صحبه” برعايته وحمايته.
والسنوار ما هو إلا امتداد لتجارب الشعوب لكن بنكهة فلسطينية خالصة مميّزة، فلم نكن أعضاءا في الحزب الشيوعي، لا المحلّي ولا السوفييتي، حينما تابعنا سيرة ومسيرة وأداء “الجنرال جوكوف”، في الحرب العالمية الثانية، في تصديه، على رأس هيئة الأركان للجيش الأحمر السوفييتي، لجحافل جيش هتلر النازي الغازي لأراضي الاتحاد السوفييتي، وحصاره موسكو ولينينغراد (بطرسبيرغ سابقا ولاحقا).
لقد قدّمت شعوب الإتحاد السوفييتي مجتمعة ما ينوف عن عشرين مليون “قتيل” في هذه الحرب الضروس، في الدفاع عن أراضيها أمام المدّ النازي البغيض، الذي احتل معظم دول أوروبا في حينه، وصولا حتى احتلال باريس، عاصمة فرنسا، حيث تجلّت فيها حكومتان:
حكومة “الجنرال فيشي” التي “هادنت وتساوقت” وتعايشت مع النازيين، وحكومة الجنرال ديغول في المنفى وفي الجبال ثوّارا تقاتل النازيين، حتى الانتصار والتحرير.
كما أننا لم نكن من الحزب الشعبي الفيتنامي حين بجّلنا “الجنرال جياب” (الجنرال الصامت) وصفّقنا له ولانتصاراته في معركة “ديان بيان فو” ضد المستعمر الفرنسي عام 1954، حيث كنس آخر جنود الاستعمار الفرنسي من منطقة الهند الصينية، وانتصاره المُظفّر في حرب التحرير الفيتنامية ضد الجيش الأمريكي المُعتدي المُحتل لفيتنام الجنوبية بعاصمتها سايغون، حين دخلتها جحافل الجيش الفيتنامي وثوّار الفبتكونغ، وهرب السفير الأمريكي بطيّارة هليوكبتر من على سطح السفارة الأمريكية، عام 1975.
وقد قام الفيتناميّون بعد النصر والتحرير بتغيير اسم العاصمة سايغون إلى عاصمة لفيتنام الموحّدة وأطلقوا عليها العاصمة “هوشي منه” نسبة وتيمّنا بقائد الثورة الفيتنامية هوشي منه، الذي يطلق عليه الفيتناميّون تحبّبا اسم “العم هو”.
والسيّد حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، يعيش منذ عام 2006 تحت الأرض، مُتخفّيا عن أعين الإسرائيليين “النهمة”، التي تلاحق “دبّة النملة” على الأراضي اللبنانية، وقد هدّدت إسرائيل بكل صلافة ووقاحة “بتصفيته” واغتياله، عينك عينك وعلى عينك يا تاجر.
القيادات الوازنة في العالم العربي، ومعظمها من قيادات المقاومة تعيش تحت الأرض كالنسور تحلّق عاليا في دنيا المجد والعزّة.
أما قيادات التطبيع العربي فتعيش فوق الأرض في قصور منيفة كخلدات الأرض تغوص في وحلها وفي دهاليز شباك وكمائن “النتن ياهو” الذي “يزرع لهم البحر مقاثي” ويُشيّد لهم قصورا من زبد ومن عار ومن عوسج.
وكم قائد، تحت الأرض، يُعدّ بألف قائد، وكم قائد، فوق الأرض، يمرّ بلا عدادا.
كما يقول الشاعر: “وكم رجل يعدّ بألف رجل وكم رجل يمرّ بلا عدادا!!!”.
إسرائيل “تُفاجر” في تهديداتها لما فوق الأرض وما تحت الأرض، وتفاخر باستهدافها لأهداف، بصورة محترفة، كعملية جراحية دقيقة ناجحة، ليتبيّن أن أهدافها التي تفاخر بها، وبحقها في الدفاع عن النفس، كما يقول ويدعمها الأمريكان في ذلك، ما هي إلا أجساد غضة لأطفال بعمر الزهور، 63 زهرة تُزيّن صدر الصفحات الأولى في جريدة هآرتس وصحيفة نيويورك تايمز، لتوسم إسرائيل، كعادتها، دولة ارهاب، دولة قاتلة الأطفال الأبرياء.
كاتب ودبلوماسي فلسطيني