اليوم وأنا أكتب هذا المقال لأرسله للجريدة أكون قد أكملت مع عائلتي وكل سكان غزة عشرة أيام متواصلة من العيش، العيش باختصار وبأقل وصف كيفما اتفق، فلا أنت تعيش ولا أنت تموت، لا شيء يكتمل في حياتك ولكنك لا تموت، أنت مسجل في سجل الأحياء، ولم تمت ولكنك تمضي أوقاتك ساعات ولياليَ ونهارات وأياماً تحصى وتعد كيفما اتفق.
لو التقيت بمواطن مصري سوف يقول لك: «أهي ماشية»، والحقيقة أنها لا تمشي، الساعة على الحائط المتبقي والذي لم يسقط بسبب الغارات لا تمشي، تتلكأ وتعاند وتبرز لسانها لك وانت تشعر بالقهر، وساعة هاتفك النقال في سبات عميق، تحتضر أو تجود بأنفاسها مثل بطارية الهاتف، بالكاد تتحرك ويتغير مؤشرها لكي يزيد من عذابك ويخبرك ان الوقت الآن قد أصبح ثقيلاً لدرجة لا توصف، لا تستطيع أن تجزيه ولا أن تمرره بأي طريقة كانت.
الكهرباء مقطوعة وحين تعود فهي تعود لساعات قليلة جدا، لذلك فأنت تشحن هاتفك كيفما اتفق، فكلما حاولت ان تبقيه متصلاً بالكهرباء من خلال شاحنه الصغير، يقطعه الرنين فتضطر لكي تمسك به وتتجول في توتر وانت تصف لشخص بعيد عن غزة معاناتك.
المياه التي تشربها والمياه التي تغتسل بها وتغسل بها ملابسك وأوانيك وتتكئ كل مناحي حياتك عليها أصبحت كيفما اتفق، تمر عدة أيام حتى تصل، وحين تصل فهي شحيحة لا تكفي لبذخ الاستحمام، ولو فكرت بالاستحمام فيجب أن تتعجل ذلك وتترك باب الحمام موارباً، وملابسك على مقربة من « الدش»، لكي لا يفاجئك القصف فتضطر للهرب أو تموت وانت في الحمام وينطبق عليك المثل «اللي اختشوا ماتوا»، ولكن ذلك لا يحدث أيضا لأن الحظ يجانبك كيفما اتفق في هذه المرة وتكمل حمامك السريع دون ان تصبح من الذين خجلوا فماتوا عرايا.
كيفما اتفق تأكل وجبة خلال اليوم، تفكر أن الوجبة ربما لن تكملها ولذلك فأنت تأكل بسرعة وربما وأنت تقف، أو بيد واحدة والأخرى تمسك بالهاتف تطالع الأخبار لتحدد مكان القصف التحذيري قبل أن تنهال الضربة الأخيرة القاضية على مبنى قريب، ولذلك فأنت منذ عشرة ايام لا تشبع ولا تشعر بالجوع، وتترك خبزك للعفن، ولا تشتهي وجباتك البسيطة، فقط تسكت صوت امعائك بوجبة كيفما اتفق.
حياة كيفما اتفق مؤلمة وموجعة لك ولأولادك الصغار منهم والكبار، وأنت ترى الحزن حولك ومرارة الفقد تطالعك من الحياة الحقيقية حيث الجيران والمعارف، أو من خلال نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي، ولذلك فحياتك اصبحت لا تعني لك شيئا وانت تهمس لنفسك: روحي ليست أغلى من ارواحهم، وبيتي ليس اغلى من بيوتهم.
حياة كيفما اتفق يمضي بها عمرك حتى اقتربت من الخمسين وانت لا تذكر سنوات لراحة البال والراحة، ولا تذكر كيف مرت سنوات طفولة اولادك وكلها في ترقب وتوجس، وهروب ثم هروب ثم لا شيء، أي لا أمل بغد ولكن الانتظار هو سيد الموقف لكي تتساءل في لحظة سعادة خاطفة متى ستكون الحرب القادمة.
مؤلم وموجع ما تمر فيه وانت لم تستطع ان تؤمن لأولادك حياة طيبة مثل غيرهم، فلا ذكاء ينقصهم ولا جمال طلعة ولا أخلاق، ولكنهم يعيشون في خوف دائم وبلا أمل ولا بشارة ولا أفق قريب ينذرهم بأن شيئاً سوف يتغير على هذه البقعة المكتظة والضيقة والمعانقة للبحر، هذه البقعة العنيدة الجبارة والتي تحيا كيفما اتفق.