في الصراع الدائم والأبدي بين حركات وتنظيمات المقاومة، وبين العدو المحتل، فإن التقييم الحقيقي لا يقاس بعدد الإصابات أو الخسائر البشرية والمادية، بل بإحساس المحتل أنه يخسر معنوياً ومادياً وأن إرادة المقاومين لن تنكسر، حتى تأتي النهاية المحتومة وهي التحرر ودحر الاحتلال وهزيمته.
بدأت بهذه المقدمة لأن بعض العرب يلومون كثيراً المقاومة الفلسطينية، على اختلاف فصائلها، بأنها تدخل في معارك عبثية مع العدو الإسرائيلي في ظل انعدام تكافؤ الفرص، وأن موازين القوة شديدة الاختلال بين الجانبين.
لكن هؤلاء ينسون شيئاً بديهياً، وهو أن المحتل دائماً هو الأقوى عسكرياً، وإلا ما تمكن أساساً من احتلال الأرض والبقاء فيها. وبالتالي فلو أن كل حركة مقاومة انتظرت أن تحقق توازن وتكافؤ القوة مع المحتل، فإنها لن تحرر وطنها أبداً، ولظل الاحتلال جاثماً على قلوب وصدور هذه الأوطان إلى الأبد.
في المعركة بين المقاومة والاحتلال، فإن هناك نقاطاً متعددة كثيرة ينساها أصحاب هذا الرأي المختل، وهم يقارنون بين توازن القوة هنا وهناك.
الاحتلال يملك نظرياً وعملياً القوة الشاملة من سلاح وعتاد ومعدات وأموال وموارد، مقارنة بالمقاومة، لكن الأخيرة تملك أسلحة مهمة جداً، أهمها سلاح الحق والإرادة والمقاومة وعدم الانكسار والتشبث بالأرض أو التفنن في اختراع وسائل مقاومة مختلفة ومتنوعة للتغلب على تفوق العدو المادي.
وبالتالي، فلو أن المقاومة الوطنية في جنوب أفريقيا بزعامة الراحل الكبير نيلسون مانديلا انتظرت تحقيق التوازن العسكري مع نظام الفصل العنصري، ما تحقق التحرر أبداً، لكن رغم قلة تسليحها ومواردها، أجبرت المحتل على إنهاء الفصل العنصري بعد كفاح لعقود طويلة.
المصريون كانوا أقل قوة من الاحتلال الإنجليزي لكنهم تمكنوا من دحره بعد سبعين سنة، بل وخسرنا جنوداً أكثر بكثير من إسرائيل في معظم معاركنا ضدها، ولو أننا فكرنا بمنطق «الخبراء الفالصو» ما حررنا أرضنا أبداً. والأمر نفسه فعلته كل الدول التي خضعت للاحتلال مثل الجزائريين ضد فرنسا الذين ناضلوا لمدة ١٣٠ سنة، والفيتناميين ضد أميركا، والصينيين ضد بريطانيا والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تُحصى. حركات المقاومة دائماً أقل عدداً وتسليحاً وعتاداً وأموالاً من المحتل الغاشم، لكنها تملك السلاح الأهم وهو الحق والإصرار والمقاومة والإرادة الصلبة، حتى تنعدم ثقة المحتل في استمرار احتلاله، وبعدها يصل إلى الاستنتاج الصحيح الوحيد وهو ضرورة إنهاء الاحتلال.
بالطبع، فإن هذا التحرر لا يتحقق بسهولة ولكنه يحتاج إلى تضحيات كثيرة، والأهم وضوح رؤية وبصيرة نافذة وتوحّد قوى الشعب ومحاولة كسب دول الجوار والرأي العام الإقليمي والدولي والفهم السياسي الصحيح، حتى يتم التعجيل بدحر الاحتلال، لكن هناك نماذج أيضاً في التاريخ لم تتمكن من تحقيق هذه المحاولة، فتعرضت للإبادة والمحو، وتمكّن المحتل من فرض رؤيته وإرادته وإعادة كتابة تاريخ مزوّر.
في حالتنا الراهنة ظنت إسرائيل أنها تمكنت أخيراً من تصفية القضية الفلسطينية، حينما عمّقت من الفرقة والانقسام بين الفصائل الفلسطينية، وحينما نجحت بمساعدة أميركية في إقناع حكومات وأنظمة عربية مختلفة بصيغة «السلام مقابل السلام» بدلاً من الأرض مقابل السلام، وحينما خدعت بعض العرب وجعلتهم يعتقدون أنها دولة عادية بل وصديقة وحليفة.
لي ولغيري تحفظات كثيرة على سلوك الفصائل الفلسطينية، وتقديري أن بعضها يخدم العدو علناً بانقساماتها، لكن في المرة الأخيرة فإن العدو هو من بدأ العدوان محاولاً سرقة بيوت الفلسطينيين في حي الشيخ جراح وسلوان بالقدس، إضافة إلى المحاولات المستمرة لاستباحة المسجد الأقصى.
لم يكن أمام الفلسطينيين، خصوصاً المواطنين العاديين، سوى التصدي للعدوان بأجسادهم وأرواحهم وحجارتهم وحناجرهم والحد الأدنى من السلاح الذي يملكونه.
ليس من العدل أن تلوم رجلاً يرى بيته تتم سرقته أمام كاميرات التليفزيون، ثم لا يقاوم اللص.
بعض الفصائل الفلسطينية ارتكبت أخطاء قاتلة وساعدت المتطرفين الصهاينة على الاستقواء، لكن ليس من العدل ولا الأخلاق ولا المروءة أن نلوم الضحية حينما تحاول الاعتراض والصراخ وقوله: «آه».
الاحتلال مصيره الزوال والاندحار والهزيمة طال الزمن أم قصر. ليس ذلك من قبيل الشعارات، ولكنه قانون إلهي وكوني وطبيعي ثبتت صحته منذ بداية التاريخ وحتى الآن.