لعل الخطاب الذي القاه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية أمس حول قرار الرئيس الفلسطيني تأجيل الانتخابات الفلسطينية كان مفاجئا للعديد من المراقبين الذين توقعوا ان يعطي هنية اشارة البدء لحملة الاتهامات والمناكفات والتي ستعيد الكل الفلسطيني الى ملهاة الشتم واللعن والتخوين والتكفير فيما يتعملق المشروع الاسرائيلي محليا واقليميا وتتجلى انجازاته التاريخية في تطبيع غير مسبوق وضياع شبه كامل للمشروع الوطني الفلسطيني.
هنية فاجأ حتى اشد الفتحاويين تعنتا بهدوئه وصراحته ولغته الوحدوية واصراره على المضي قدما في مسيرة انهاء الانقسام معتبرا أن الانتخابات كانت احدى عناصرها ولم تشكل أبدا مجمل العملية التصالحية الهادفة الى انقاذ ما يمكن انقاذه من حلم يتلاشى بسرعة غير معهودة.
ومن الواضح أن دعوة هنية للقاء وطني تنسجم الى حد كبير مع دعوة زعيم الجهاد الاسلامي زياد النخالة امس الذي دعا الى التوافق على برنامج وطني لمجابهة الاحتلال معتبرا "ان مظاهر السلطة الوهمية لن تجلب دولة وأن محاولة التعايش مع الاحتلال عبر الانتخابات وكأننا نعيش بكامل حريتنا اثبتت الوقائع السابقة منذ توقيع اتفاق أوسلو اللعين أنها أوهام كاذبة".
الدعوة ذاتها اطلقها صباح السبت الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة والتي قال في مقابلة له بثتها اذاعة فلسطين السبت بان فتح ستتحرك وطنيا في مرحلة ما بعد التأجيل لمواجهة الواقع الجديد وتداعياته ولا نستبعد في هذا الاطار ان تدعو مصر الى اجتماع للقيادة الفلسطينية للبحث عن مخارج مؤقته قد تاخذ سبل الديمومة عبر تشكيل حكومة انقاذ أو حكومة وحدة وطنية .
وهنا يجدر الاشارة الى أن المتشككين في مجمل العملية الانتخالبية من بعض قيادات فتح وحماس كانوا ولا زالوا يعتقدون بأن الذهاب للانتخابات قبل انهاء الانقسام ستكون له اثار كارثية في تجذير الانقسام وقد تكون هذه الرؤية ساعدت الى حد ما في تخفيف حدة ردود الافعال التي توقعها العديدون بعد عملية التأجيل.
لا يختلف اثنان على ان الانتخابات والتحضير لها كان لها تجليات بعيدة المدى على الواقع الفلسطيني من حيث افراز تشكيلات وقوى قديمة جديدة كانت تستعد جميعا بكل ما اوتت من قوة لتعلن عبر الانتخابات بأن الواقع الفلسطيني تغير ومتغير بصورة غير مسبوقة وانه لم يعد بالامكان المراهنة على اوضاع كانت قائمة عندما أجريت اّخر انتخابات تشريعية في العام 2006 .
لسنا هنا بصدد الدخول في تفسيرات وجدليات حول عملية التاجيل وعلاقتها بالقدس والتي تمحورت حول تخوفات من صعود التيار الاصلاحي الذي يقوده دحلان وصعود حماس او انشقاق القدوة والبرغوثي واصرار الاخير على الترشح لانتخابات الرئاسة وما له من تداعيات تضرب في صميم اتفاق القاهرة بين حماس وفتح حول وحدانية ترشح الرئيس عباس لانتخابات الرئاسة.
من الواضح ايضا أن عملية التاجيل هي اكثر تعقيدا مما يتخيله البعض وان الوضع الاقليمي والدولي لعب دورا هاما "مرغوبا" لدى البعض عبر فشله في الحصول على تعهد اسرائيلي باجراء الانتخابات بالقدس او من خلال اشارات اقليمية واضحة بان أي تغير دراماتيكي في المشهد الفلسطيني لن يكون في مصلحة احد وحتى وان تناقضت حسابات بعض القوى الاقليمية في قضايا أخرى.
الرفض الاسرائيلي لاجراء الانتخابات بالقدس كان مطلوبا ومحببا ومن الواضح ايضا ان ابقاء الوضع الفلسطيني كما هو عليه من استمرار الاحتلال والحصار وتجذر حالة الانقسام وانهيار المشروع الوطني "الغير معلن رسميا" يمثل رغبة فلسطينية غير معلنة لدى بعض القوى الفاعلة والمؤثرة محليا ومطلب اسرائيلي اقليمي يرى بأن تداعيات المشهد الفلسطيني تبقى دائما وأبدا عابرة للحدود ما يشكل تهديدا حقيقيا للوضع القائم بالمنطقة ككل.
ولعل ما أكده وزير الخارجية الاسبق يوسي بيلين احد صناع اوسلو والذي طالب بحل السلطة في اغسطس 2018 بأن "استمرار الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية يبدو أمرا مريحا لجميع الأطراف، فالفلسطينيون لديهم حكومة معترف بها من كل العالم، بما فيه إسرائيل، ومنذ عام 2012 بات لديهم وضعية غير دائمة في الأمم المتحدة، ولهم عضوية كاملة في العديد من المؤسسات الدولية، وهناك قطاعات مجتمعية فلسطينية واسعة مستفيدة من بقاء السلطة، لأنهم يعتقدون أن بقاءها يحقق لهم استقرارا مالياً وسياسياً".
ما حدث من تأجيل للانتخابات الفلسطينية لم يكن أبدا نهاية حدث غير متوقع او انعطافة حادة في صيرورة التحليل السياسي بل أن اكثر المتفائلين كانوا هم أنفسهم اكثر المتشككين في امكانية حدوثها ..وللقصة بقية ...
كاتب فلسطيني