سوء تقدير..سما حسن

الخميس 29 أبريل 2021 12:47 م / بتوقيت القدس +2GMT



بعد تقاعدها من عملها أي بلوغها سن الستين، حصلت على مكافأة نهاية الخدمة، مبلغ مالي ضخم يسيل له لعاب أقاربها من الدرجة الأولى لأنها بلا أبناء، ولكنها لم ترزق بأبناء وهي تقدر انها لن تعيش كثيراً بعد التقاعد.
عملها كان هو كل حياتها، وبعد أن أصبحت بلا عمل ودوام يومي تكالبت عليها الامراض، وربما كانت مريضة ولم تكن تلقي بالاً لأعراض بدأت تشتد، ولكنها اليوم بلا عمل وصحة متهالكة فقدرت انها لن تعيش طويلاً، ولذلك قررت أن تبني بيتاً كبيراً يشبه القصر تعيش فيه وتتنعم بجماله واتساعه، وتبقي مبلغاً من المال لكي تنفق منه حتى يحين أجلها.
وبالفعل فقد كان لها ما أرادت، فخلال شهور قصيرة كان لديها قصر تحيطه حديقة وزرعت فيها شتلات أشجار متنوعة، واصبح كل من يمر أمام هذا القصر الجميل يتأمل بروعته وتصميمه، بل ويحسد ساكنيه، ولم يكن يعلم أن ساكنته بدأت تشعر بوحشة في هذا الفراغ الفسيح.
بدأت تلوذ بغرفتها وتجلس بجوار الهاتف على أمل ان يتصل بها أحد، ولكن احداً لم يفعل، وحاولت أن تشغل وقتها بتنظيف القصر وترتيبه ولكن صحتها خذلتها، وبات التجول فيه مرهقاً لها، ولذلك لم تعد حياتها واسعة شاسعة بل محصورة في غرفتها والحمام المجاور بها، وبالكاد تستطيع الوصول إلى المطبخ الواسع فتعد فيه أي طعام يسد رمقها ثم تعاود الانزلاق في سريرها وتتدثر تحت الاغطية.
لم تكن تريد لأحد ان يدق بابها طالباً قرضاً او معونة أو هبة مالية غير مستردة، ولذلك فقد بنت هذا القصر، واليوم تمر عشر سنوات على تركها العمل وقد نفدت أموالها ولم تعد تملك ثمن الطعام ولا الدواء، ولم تمت كما قدرت بحيث يكفيها ما استبقته من مال حتى مغادرتها الحياة.
اليوم يزورها اقاربها البعيدون والذين لا يمتون لها بصلة من الدرجة الأولى، فيعتنون بها في نوبات عناية موزعة بينهم، وهناك من يتكفل بشراء الدواء لها، وهناك من يشتري الطعام ويعده في بيته، ويأتي به إلى براد مطبخها.
اليوم اصبحت قاب قوسين أو أدنى من الموت وبات عذاب ضميرها يسرع بها إلى قبرها، وتنبهت لسوء تقديرها لأنها قررت أن تكون وحيدة في قصرها، اعتقدت ان كل من حولها طامعون بمالها، واعتقدت انها أذكى من تصاريف القدر حين بنت قصراً بمعظم ما تملك من مال، حتى نفد مالها ولم ينفعها قصرها المشيد الذي ذبُلت شجراته وتكسرت أغصانها، واصبحت الحديقة جافة بلا رعاية.
فكرت وهي تئن بأنها لو استثمرت المال بإنشاء دار للمسنين امثالها أو حتى دار أيتام فربما لقيت من يعتني بها ومن يدعو لها، ويقدر معروفها، ربما أنقذت مسناً او مسنة، وربما تكفلت بأيتام ومدت لهم يدها فأنقذتهم ايضا من الضياع والتشرد.
فكرت انها كانت ناقمة على الناس، ولم تكن تعرف انها في يوم من الايام سوف تحتاجهم، وربما أرادت ان تنتقم منهم فانتقمت من نفسها، واليوم تعلم انها بمجرد ان تغمض عينها سوف يصبح هذا القصر من حق أقاربها، وسوف يوزعون ثمنه عليهم حسب الشريعة الإسلامية دون ان تقف بينهم لتقول لهم يا طماعين.
سوء تقديرها جعلها تغفل ان الحياة عطاء، وأن من يعطي لا يكون وحيداً، فهناك قلوب سوف تدعو له وتتمنى له الخير، وهي تعتقد انها سوف تموت بسرعة ولا تعلم كم من مرضى امضوا عشرات السنين وهم يصارعون المرض حتى حانت لحظة نهايتهم ولفظوا أنفاسهم.
اليوم هي تنتظر أن تموت لكي ترتاح من نظرات الشفقة، وكل الإحسان الذي تراه ممن استكثرت عليهم مالها، وتبينت ان كرم الأخلاق والنبل أغنى من المال، المال الذي لم ينفعها ولم ينقذها من نظرات أقاربها وهم يشفقون على ضعفها.