تبدي دول خليجية «طبّعت» علاقتها مؤخراً بإسرائيل حماسة استثنائية، في هذا الشأن، وتتصرف على المستويين الرسمي والشعبي بما يشبه التعبير عن عاطفة طال كبتها. ولعل في أمر كهذا ما يبرر الكلام عن تجليات مختلفة للإعجاب بإسرائيل. وهذا لا ينحصر، بقدر ما أرى، في السلالات الحاكمة بل ويشمل شريحة واسعة من العاملين في التجارة العالمية، والمصارف، وسوق النفط والتقنية والأمن والسلاح، خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي.
ولا يعنينا في معالجة اليوم تحليل الدوافع والأسباب، بل لفت الأنظار إلى حقيقة أن بنيامين نتنياهو، صاحب هذه الفتوحات، وأكبر المراهنين عليها، لم يربح ولم تتحسّن حظوظه الانتخابية، بل وخسر حزبه في انتخابات العام الحالي ستة مقاعد، مقارنة بما حصل عليه في انتخابات سبقت قبل عام. وهذا يصلح دليلاً في معرض الكلام عن فتور همّة الجمهور الإسرائيلي في موضوع العلاقة مع الخليج، أو على الأقل تدني القيمة التبادلية لورقة كهذه في سوق الانتخابات.
وإذا قلنا أن ثمة خلاصة، تكاد تكون مشتركة، في تحليلات المراقبين الإسرائيليين والأجانب للانتخابات الأخيرة في إسرائيل: كان الموقف من نتنياهو موضوعها الرئيس، ولم تكن قضايا «الحرب والسلام» على رأس قائمة هموم الناخبين، ولا في الصراعات السياسية والأيديولوجية بين الكتل المتنافسة. فلا تعني خلاصة كهذه سوى أخذ فتور همّة الجمهور الإسرائيلي، والقيمة التبادلية لورقة العلاقة مع الخليج، على محمل الجد.
وما يزيد من ضرورة التفكير والتدبير، في هذا الشأن، أن السجال العام في الحقلين السياسي والثقافي الإسرائيليين حول الفتوحات الجديدة لم ينل مكانة يُعتد بها، حتى النبرة الاحتفالية والانتصارية المتوقّعة، والمألوفة، لم تكن مسموعة، رغم الأجواء الاحتفالية في واشنطن، والأداء المسرحي للشركاء في حديقة البيت الأبيض.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، فتور الحماسة لا يعني التردد في الاستفادة من واقع جديد على صعيد الأفراد، ولا يعني أن المكسب الإسرائيلي قليل على مستويات استراتيجية ورمزية كثيرة، بل يعني أن ثمة حيرة من نوع ما في تعريف الواقع والقبض عليه بما لم يتوفر من لغة بعد. ولعل في هذا ما يحرّض على، ويستدعي، أكثر من تفسير.
فلنفكر، مثلاً، في مرافعة رئيسة ومتعددة الطبقات في خطاب الدولة الإسرائيلية منذ نشوئها عن كونها القلعة الديمقراطية المحاصرة في الشرق الأوسط، وعن عداء عضوي للسامية أبقته أنظمة الاستبداد الشرقي حياً، في مجتمعات قبلية معادية للقيم والحداثة الغربيين. ولنلاحظ أن هذه المرافعة وجدت، خاصة في زمن الحرب الباردة، صدى عميقاً في أوساط اليساريين والليبراليين، وتماهت إلى حد بعيد مع قيم الديمقراطيات الليبرالية الغربية.
ولنلاحظ انقلاب مرافعة القلعة الديمقراطية رأساً على عقب، مع صعود إسرائيل إلى مرتبة القوّة الإقليمية، وتحالفها مع «لا ساميين» و«آسيويين متخلفين»، بل وبسط حمايتها عليهم. وأن هذا يحدث، أيضاً، في ظل تحوّلات سياسية واجتماعية مكّنت اليمين القومي والديني من الهيمنة على الحقل السياسي، وجعلت من الدولة الإسرائيلية نفسها حليفاً طبيعياً لقوى اليمين الصاعد في الغرب وفي كل مكان آخر.
ما يبدو سياسياً في ما تقدّم يمس عصباً وجودياً في حالة الإسرائيليين والدولة الإسرائيلية. ولا يبدو من قبيل المجازفة القول، إن الإسرائيليين لم يعثروا بعد على اللغة والمفاهيم وحتى المفردات اللازمة لصياغة خطاب جديد، وتأويل الواقع بطريقة مختلفة. تماماً كما حدث مع الفلسطينيين بعد أوسلو، فقد دخلوا مرحلة جديدة، بالفعل، ولكنهم عانوا كثيراً في محاولة العثور على ما ينسجم معها من لغة ومفاهيم. وهذه العملية ما زالت مستمرة.
والطريف في الأمر أن نتنياهو، الذي يلعب بالبيضة والحجر، رفع على اليوتيوب بعد الاتفاق مع الإمارات شريطاً مصوّراً تكلّم وأشاد فيه بالسلام بين «دولتين ديمقراطيتين»، ثم سارع إلى حذفه، وعلى الأرجح بعدما انهالت عليه ملاحظات تشكو من الذهاب في لعبة البيضة والحجر إلى هذا الحد.
يعرف صنّاع السياسة الإسرائيليون ما الذي يريدونه، ويتوقعونه، وينتظرونه، من شركائهم الجدد، بالمعنى العسكري والسياسي والاقتصادي، ولكنهم لم يعثروا، وبقدر ما أرى، على اللغة المناسبة، فهم في مرحلة وسطى، الآن، ما بين خطاب قديم انتهى، وخطاب تتخلّق مفرداته في الزمان والمكان لكنها لم تتضح بصورة كافية بعد.
هل يصبح مشهد العباءات السود، والدشاديش البيض مألوفاً في وسط تل أبيب، مثلاً، وماذا عن العقارات، والاستثمارات، والمشاريع المشتركة، والخدمات الطبية، والسياحة والترفيه، وكل ما يتصل بأشياء كهذه من أنشطة وخدمات مشروعة وغير مشروعة؟ مشاهد هؤلاء مألوفة في لندن وباريس وبرلين، وفيينا، وفي المدن المذكورة من الثقة بالنفس ما يكفي لعدم الإصابة بالذعر، فهل تملك تل أبيب ما يكفي من الثقة بالنفس؟
هذه أسئلة مفتوحة، بطبيعة الحال، وفي صميم كل محاولة للقبض على معنى الفتوحات الدبلوماسية والعلاقات الجديدة. كانت إسرائيل، والعبارة لعاموس عوز، «كتاباً قبل أن تكون دولة». أراد أن يُدلل بالعبارة على تفرّد دولته. ولكن كل الدول كانت كتباً بطريقة أو أُخرى، في وقت ما، قبل نشوئها (أو جماعة مُتخيّلة، بلغة بندكت أندرسون). والمهم، الآن، أن الكثير من الفصول في كتاب عوز لم تعد صالحة للقراءة.