طارق فهمي- تدخل السلطة الفلسطينية استحقاقاً حقيقياً في إتمام خطوة إجراء الانتخابات التشريعية، والمرور منها إلى انتخابات الرئاسة، ثم استحقاق المجلس التشريعي كما هو مخطط وفقاً للمراسيم الرئاسية التي أعلنها الرئيس محمود عباس.
واللافت في هذا السياق كثرة الأحاديث حول احتمالات تأجيل الانتخابات التشريعية إلى موعد آخر، خصوصاً أن الحكومة الإسرائيلية لم تعطِ رداً رسمياً أو بصورة غير رسمية على قبول إجراء الانتخابات في القدس وما يجاورها، بالتالي فإن تأكيد ضرورة أن تشمل الانتخابات القدس مهم، وله دلالات رمزية حقيقية في إنجاح حدث الانتخابات والتسويق له دولياً.
تطورات مفصلية
تؤكد السلطة الفلسطينية أن إجراء الانتخابات وفقاً للخريطة الزمنية مطلب حقيقي في ظل الرهانات التي تتردد في الأجواء الفلسطينية الراهنة، إذ يبدو أن هناك قوى فلسطينية على الجانبين في حركتي "حماس" و"فتح" لا تريد إجراء الانتخابات أصلاً وتتذرّع بعدم شمولها القدس الشرقية.
ومن المفترض أن تخوض "فتح" الماراثون بثلاث قوائم، الأولى تمثل الرئيس عباس والحركة الأم، والثانية "الحرية" بزعامة ناصر القدوة، وبدعمٍ من الأسير البرغوثي، والثالثة النائب محمد الدحلان المفصول من مركزية "فتح" أسوة بالقدوة، وسط توقعات بأن تتوحد القائمتان الثانية والثالثة خلف هدف واحد وهو إضعاف الرئيس عباس.
إن تأجيل الانتخابات قد يكون مطلوباً، وسط تخوفات حقيقية من قِبل بعض الشخصيات البارزة في "فتح"، وبعد حالة الانشقاقات المتتالية والذهاب إلى الانتخابات بأكثر من قائمة قد يكون هو السبب في ظل توقعات تشير إلى إمكانية تكرار ما جرى في آخر انتخابات فلسطينية فازت بها "حماس".
لقد طرح عدد من أسرى حركة "فتح" مبادرة تقضي بتأجيل الانتخابات التشريعية، على أن يجري تعديل قانون الانتخابات، بما يتيح ترشيح محمود عباس للرئاسة والأسير مروان البرغوثي نائباً له، كما تدعو المبادرة إلى وجوب العمل على تأجيل الانتخابات التشريعية، انطلاقاً من بوابة القدس، خصوصاً أن الواقع السياسي الإسرائيلي لن يسمح بإجرائها في ظل الصراعات السياسية القائمة في هذه المرحلة.
ودعت المبادرة أيضاً إلى إصدار مرسوم رئاسي بتعديل المادة 38 يتيح لأي مواطن فلسطيني تنطبق عليه شروط الترشح من أن يرشح نفسه لمنصب الرئاسة، وبعد المرسوم الرئاسي يجري الإعلان عن سحب قائمة "الحرية" بهدف دمج القائمتين في قائمة واحدة، بما يلبي مصلحة الحركة، في الوقت الذي يجري فتح حوار مع بقية القوائم الأخرى. فضلاً عن أنها تضمّنت إعادة النظر في قرار فصل ناصر القدوة من الحركة، والعمل على إعادته إلى صفوفها، وإلى عضوية اللجنة المركزية في مسألة مصالحة داخلية قوية للقواعد الفتحاوية وللجمهور الفلسطيني.
بالتالي، فإن هذه الخشية كبيرة ولا تزال تدفع بقوة إلى تأجيل حدث الانتخابات تخوفاً من مستجدات ما سيجري على الرغم من كل ما يتردد إعلامياً وسياسياً في الفضاء الفلسطيني والمعارك الضارية التي تجري على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنبعها الخوف من الإقدام على هذه الخطوة الكبيرة، التي ستؤدي إلى تغيير دراماتيكي في حال إجرائها. والواقع أن عدم الانعقاد، سيجعل السلطة في وضع حرج أمام شعبها، والداعمين لها، بخاصة الاتحاد الأوروبي الذي يصرّ على إجراء الانتخابات في موعدها.
لهذا، إزاء أن كل الشرعيات الفلسطينية قد تبدو منقوصة، فلا أحد يتحدث عن الشرعية القائمة التي تحتاج بالفعل إلى تجديدها لاعتبارات متعلقة بالتعامل اللاحق مع الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي على أسس جديدة، وهو ما يستهدفه الرئيس محمود عباس بالفعل، لكنه يتخوف من تبعاته، على اعتبار أن الذهاب إلى استئناف العلاقات الأميركية الفلسطينية سيتطلب وضعاً أقوى للسلطة وخطاباً سياسياً مختلفاً ومتغيراً عما هو قائم، لأنه لا يمكن قبول ما يتردد وفقاً لحسابات قديمة لن تقبلها الإدارة الأميركية، وترى أنها تحتاج إلى تعديل، وهو ما قد يتماهى معه عباس وعدد من الشخصيات الأمنية في السلطة، التي تسعى إلى تغيير ما يجري واستثمار ما يحدث في مناخ العلاقات الفلسطينية الأميركية، التي تدور تفاصيلها في "الظل" في الوقت الراهن وخلفها مجموعة من الأسماء الفلسطينية والعربية التي تدفع بالفعل إلى تطوير العلاقة بين رام الله وواشنطن، وأسفرت بالفعل عن إجراءات وتدابير أميركية حقيقية، سيُبنى عليها في الفترة المقبلة بدليل استئناف سياسة ضخ المساعدات والإعلان عن خطوات "فتح" القنصلية في القدس الشرقية، وخطوات أخرى في إشارة إلى التغيير الجاري على المستوى الأميركي، ويتطلب تعاملاً فلسطينياً مقابلاً.
الموقف الأميركي
يمكن القول إن الجانب الأميركي منح الضوء الأخضر بعدم معارضة تأجيل الانتخابات المقررة في الـ 22 من مايو (أيار) المقبل، إذا اضطر الفلسطينيون إلى إرجائها، ووفق ما علمناه، فإن إدارة الرئيس جو بايدن "ستنظر بتفهم إلى هذا الاحتمال لبعض الوقت، ولن تمانع إذا قرر الفلسطينيون اختيار وقت يناسبهم أكثر، تصبح فيه التحديات التي ذكرتها قيد السيطرة"، كما أن أوروبا تعارض حتى الآن تأجيل الانتخابات، وهو الأمر الذي دفع وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي إلى بدء جولة أوروبية لبلورة موقف نهائي من المسألة تحت شعار "حشد الضغط الدولي لتنفيذ الانتخابات في القدس".
وقد تبيّن من ترتيبات لجنة الانتخابات أن أقل من سبعة آلاف ناخب في القدس هم الذين بحاجة إلى موافقة إسرائيلية مسبقة، في حين البقية (أكثر من 150 ألف ناخب) ستوضع صناديق الاقتراع الخاصة بهم في ضواحي القدس، من دون انتظار موافقة إسرائيلية، أما بقية الناخبين المقدسيين المؤهلين للاقتراع، وعددهم نحو 150.000، فمن المفترض أن يصوتوا في ضواحي القدس، ولا يحتاج هذا الأمر إلى موافقة إسرائيلية.
ووفق اللجنة، ترشح نحو 60 مقدسياً في القوائم الانتخابية المختلفة، بينما من المقرر أن تنطلق في 30 أبريل (نيسان) المقبل، أي خلال أقل من أسبوعين، مرحلة الدعاية للانتخابات التشريعية، التي من المفترض أن تشمل مدينة القدس.
وما بين الخطوات الإجرائية والجوهرية في إدارة العملية الانتخابية، يمكن التوقف عند المطلب الفلسطيني بضرورة أن تجري الانتخابات من دون مناكفات إسرائيلية وبمراقبة ومتابعة دوليتَين، وقد جرى بالفعل تدريب فريق المراقبين، خصوصاً أن مسارات ما يجري في النظر في الطعون والاستعداد لبدء خطوة الدعاية الانتخابية والنفاذ منها إلى موعد إجراء الانتخابات والرسالة بأن الساحة الفلسطينية باتت في حالة من الزخم والتفاعل الكبيرَين لإجراء الانتخابات، ومن ثمّ فإن أي خطوة قد تطرأ، سيكون لها رد فعل كبير على كل الأطراف، وليس فقط حركتي "حماس" و"فتح".
حالة "فتح"
تواجه إذاً حركة "فتح" اختباراً عسيراً في ظل استمرار حالة الانقسام، لكن ليست أمام الرئيس محمود عباس خيارات عدة، بل هي خيارات ضيقة لاعتبارات تتعلق بما يرى ويخطط في التعامل مع إدارة الرئيس جو بايدن، وفي ظل تحولات جذرية تجري في الإقليم، وتتطلب التعامل معها، كما أن تأجيل الاستحقاق الانتخابي سيفقد عباس كثيراً من الخطوات، بل وسيؤدي إلى انتكاسة حقيقية، لكي يستطيع مواجهتها.
لهذا من المرجح أنه سيمضي متحسساً خطواته وأمامه فرصة الاستمرار والعمل على إنجاح الخطوة وعينه بالأساس على الانتخابات الرئاسية ومنافسة مروان البرغوثي و"الاتفاقات التي تجري علانية وسراً" داخل "فتح"، التي قد تخصم من رصيده الشعبي حال خوض البرغوثي المواجهة، ولن تصلح أية خطوات من قبل عباس ورجاله في تطويق طموح البرغوثي وتياره الصاعد بقوة.
لكن، هذا لا يعني أن الرئيس عباس رتّب حساباته على الانتخابات الرئاسية لا التشريعية التي تمثل الهم الأكبر لـ"فتح"، وفي ظل انقسام المشهد الفتحاوي بصورة كبيرة الذي ينذر بكارثة على الحركة في حال أجريت الانتخابات بمؤشراتها الحالية وعبر أساليب غير نمطية، خصوصاً في القدس وما يجاورها، ستظل الإشكالية في أن تتوافق "فتح" في النهاية على أن لا تدخل الانتخابات التشريعية في هذا الوضع غير المسبوق.
خيارات "حماس"
رتّبت حركة "حماس" نفسها أمام كل الخيارات والسيناريوهات التي يمكن أن تواجهها في المدى القصير والمتوسط، فأجرت انتخابات داخلية، وأعادت تمركز الشخصيات الكبيرة والبارزة في إطار مشهد مفتوح، وبالرغم مما جرى في انتخابات الداخل وعودة انتخاب خالد مشعل لرئاسة إقليم الخارج، فإن انتخابات المكتب السياسي ومجلس الشورى وهو الأهم لم تجرِ بعد.
واستهدفت هذه الخطوات وغيرها داخلياً رأب الصدع الحالي في الحركة التي لا تعلن تفاصيلها لاعتبارات سياسية وأمنية وفي إطار مخططها الذهاب إلى الانتخابات والتعامل مع ما يجري في الضفة والقطاع، وفي إشارة إلى أن الحركة لن تتراجع عن خطواتها بالرغم من رهانات البعض بأن أي خطوة سلبية من قبل الرئيس محمود عباس ستواجه بخطوة مماثلة على الجانب الآخر، وفي إشارة لها مدلولها باحتمال رفض حركة "حماس" ما يجري من قرارات رئاسية حقيقية يمكن أن تمثل ضغطاً عليها، وهو ما قد يدفعها لاحقاً إلى التماشي مع ما سيحدث والذهاب إلى الانتخابات التشريعية والعمل على الفوز فيها كهدف رئيس، وإما الانطلاق من حسابات سياسية ضيقة، خصوصاً أنها سبق وأعلنت وبصورة مباشرة قبولها بكل النتائج التي ستأتي بها الانتخابات، وأنها ستعمل على شراكة حقيقية مع حركة "فتح"، وأنها لن تنفرد بالحكم حال فوزها، وهذا خطاب سياسي عام قد تتراجع عنه فور تحقيقها هذا الأمر وفقاً لحسابات حقيقية، وإذا تصدرّت المشهد الانتخابي الراهن والساعي بالفعل إلى الوصول إلى الحدث وإتمامه بصرف النظر عما يجري من تفاصيل.
كما تسعى حركة "حماس" في الوقت ذاته إلى الحصول على أصوات مؤيدي حركة الجهاد الفلسطيني، وتعمل على جمع الفصائل حولها، وتسعى إلى شراكة انتخابية لا سياسية عبر ائتلافات للحكم بعد إجراء الانتخابات على طريقة مشاركة لا مغالبة، وهو ما يستدعي إعادة ترتيب الخيارات التي تواجه الحركة، التي تتخوّف بالفعل من رد الفعل الإسرائيلي والأميركي حال فوزها أو التحفظ على اختيار ممثليها في أي حكومة مقبلة، وإلا فإن البديل الحقيقي سيرتبط بمراجعة جديدة لميثاقها للتعامل مع إسرائيل، ونبذ العنف والإرهاب والاعتراف بما سيجري، أي الانخراط في استحقاق أوسلو رسمياً، ما يعني أن موقف حركة "حماس" سيكون مغايراً إذا رغبت بالفعل في التوصل إلى مقاربة جديدة مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولعل استئناف إطلاق الصواريخ خلال الأيام الأخيرة كرسالة لها مدلولها، يأتي في هذا السياق من الحسابات الحقيقية الجديدة التي قد تراهن عليها "حماس" وستعمل عليها بصورة أو بأخرى سواء جرت الانتخابات أو تم تأجيلها رسمياً.
الموقف الإسرائيلي
يأتي الموقف الإسرائيلي مما يجري مرتبطاً بأهداف عدة مطروحة على المستويين السياسي والأمني، فالسياسي يرى أنه لا توجد إشكالية حقيقية في حال إجراء الانتخابات بصورة عامة تشريعية أو رئاسية، لكن الإشكالية في احتمالات عدم فوز الرئيس محمود عباس أو حركة "فتح"، مما ستخسر إسرائيل معه الشريك الرسمي الذي أعاد التنسيق الأمني والحريص على استئناف الاتصالات الأمنية والسياسية، والممثل الشرعي المقبول دولياً حتى الآن، بالتالي فوجود الرئيس محمود عباس مهم لاعتبارات عدة، ولحين حسم معركة الخلافة السياسية التي لن تمثل بمروان البرغوثي، الذي ما زال في محبسه، ولن تفرج عنه إسرائيل إلا في إطار صفقة كبرى لم تتبلور تفاصيلها بعد، كما لن تقبل بحل سياسي لخروجه للتتويج كخليفة للرئيس محمود عباس، وفي ظل صراعات مكبوتة داخل "فتح"، لا تريد أن يصعد نجم مروان البرغوثي في الوقت الراهن إيماناً منها بأن الرجل له ثقله السياسي في الشارع الفلسطيني، وأنه سيكون مصدر إزعاج حقيقي لكثير من الشخصيات البارزة التي تتصدر المشهد الفلسطيني الراهن، ولا تحظى بقبول جماهيري وملفوظة شعبياً.
بالتالي، فإن إسرائيل قد تعرقل ما سيجري، لكنها لن تقف في مواجهة ما يحدث وإن كانت نصحت الرئيس محمود عباس عبر وسطاء وقنوات التعامل الأمني بتأجيل الخطوة، والاستعداد لسيناريو آخر في إطار التخوف من تصاعد مدّ "حماس"، وأنه إذا جرت الانتخابات فقد تفوز بها الحركة، وستكون تكلفة ذلك كبيرة وخطيرة. أما على المستوى الأمني، فترى تل أبيب أن ترك الأمور على ما هي عليه في ظل الوضع الراهن قد يكلف إسرائيل كثيراً من التبعات السياسية والأمنية معاً، وأن إسرائيل من دون رؤية في التعامل مع كل التطورات قد يؤدي المشهد إلى تصدّر حركة "حماس" و"الفصائل المنفلتة" المشهد الراهن والمنتظر، وقد يؤدي إلى كارثة على أمن إسرائيل مما يتطلب من الآن الاستعداد، ووضع كل السيناريوهات المطلوبة لتأمين ذلك وعدم إنجاح الخطوات الفلسطينية أيّاً كان هدفها المعلن.
الخلاصات الأخيرة
هناك عوامل تدفع نحو تأجيل الانتخابات التشريعية، وهي قوية لا نستطيع التقليل منها على خلفية القوائم المتعددة لحركة "فتح" وكورونا والقدس. وحالياً تدرس قيادات "حماس" مقترح تأجيل الانتخابات، لحين تحسن الوضع الوبائي في قطاع غزة، وقد تجري مراسلة اللجنة المركزية للانتخابات بهذا المقترح في الفترة المقبلة، أما حركة "فتح" نفسها فمنقسمة على مسألة المضي بالانتخابات أو تأجيلها، فهناك قيادات مع مضيها، وأخرى تريد تأجيلها بسبب الخشية من النتائج في ظل تعدد القوائم.
لهذا، فتأجيل الانتخابات أو إلغاؤها بعد الجهود المضنية التي بذلت في القاهرة، التي شارك فيها الكل الفلسطيني، وتوافق على إجرائها سيشكل صاعق تفجير للحالة الفلسطينية المأزومة، التي لا يعلم إلا الله تداعياتها.
أمّا المهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فهو أن تلتزم القوى السياسية الفلسطينية الاتفاقات المبرمة بين أميركا والفلسطينيين، وبين إسرائيل والفلسطينيين، فهذه الاتفاقات التي تضمن المضي قدماً لتحقيق حل الدولتين، ونبذ العنف، وإنهاء الانقسام الفلسطيني، وضمان تمتع إسرائيل بالأمن، والفلسطينيين بالحرية.
طارق فهمي متخصص في الشؤون الفلسطينية ومستشار مشارك في المفاوضات العربية الإسرائيلية ، أستاذ علاقات دولية ومحاضر في جامعات مصرية عدة.