يستعد الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية وقطاع غزة للإدلاء بأصواتهم في انتخابات هي الثالثة في ترتيبها منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993. حيث عقدت الانتخابات الأولى في تاريخ السلطة الوطنية الفلسطينة ثلاثة أعوام عقب هذا الاتفاق ليتجه الفلسطينيون حينها لصندوق الانتخابات في سابقة لم تمر على المشهد الفلسطيني من قبل. انتخابات العام 1996 نتج عنها منح الشرعية لياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بوصوله لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينة بعد خسارة منافسته الوحيدة على منصب الرئاسة حينذاك سميحة خليل. وفي ذات الانتخابات تم اختيار أعضاء للمجلس التشريعي الفلسطيني الأول والذي ترأسه آنذاك أحمد قريع، ووصل عدد أعضاءه حينها 88 عضوا.
هذه الانتخابات لم تشترك فيها كافة أطياف الأحزاب السياسية الفلسطينية حيث رفضت حركتا حماس والجهاد الاسلامي المشاركة فيها لكونها انتخابات وصلت على عربة اتفاقية أوسلو التي كانت مرفوضة شكلا وموضوعا لدى كل منهما بالإضافة لبعض التنظيمات والأحزاب اليسارية.
واستمرت مخرجات هذه الانتخابات لعشرة سنوات لاحقة واصل بها ياسر عرفات رئاسة السلطة الفلسطينية لمدة ثمانية أعوام منذ انتخابه الى حين وفاته في نوفمبر من العام 2004، ومن ثم استلام رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك محمود عباس لزمام الحكم بإنتخابات تلت وفاة ياسر عرفات بعام واحد، حيث اتجه الفلسطينيون لصندوق الانتخاب مرة ثانية لاختيار رئيس من بين سبعة مرشحين على منصب رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية معظمهم مستقلين أو محسوبين على حركات إسلامية ويسارية فلسطينية. لكن محمود عباس وهو مرشح فتح الوحيد آنذاك ورئيس اللجنة التنفيذية حظي بالنصيب الأكبر فيها واستمر بهذا المنصب إلى يومنا هذا حيث لم تعقد انتخابات رئاسية فلسطينية منذ ذلك الحين.
وكان المشهد الداخلي الفلسطيني على موعد مع تغيير جذري لم يكن متوقعا لدى الكثير من المراقبين، حيث عقدت في العام 2006 انتخابات تشريعية قررت حركة المقاومة الاسلامية "حماس" حينها خوص غمارها على غير ما كان معهودا منها. ولم يكن اشتراك حماس في الانتخابات مرتبطا بقبولها بما تمخص عن اتفاقية أوسلو، إنما يعود لتغييرات دراماتيكية حصلت على الصعيد الداخلي للحركة بعد قيام إسرائيل بإغتيال كثير من قيادات الصف الأول فيها وهنا نذكر أحمد ياسين مؤسس الحركة وزعيمها الروحي حتى اغتياله في 22 مارس 2004، لتنفذ إسرائيل بعد ذلك بأقل بشهر عملية اغتيال عبد العزيز الرنتيسي قائد الحركة في قطاع غزة .لكن الحركة أصدرت حينها منشوراً يقول بأن موافقتها على المشاركة في العملية الانتخابية التي هي أحد مخرجات اتفاقية اوسلو يأتي "إنطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه شعبنا وقضيته وكوننا نحمل منهاج الإصلاح والتحرر الذي باستطاعته المساهمة الفاعلة في تخفيف معاناة المواطن وتعزيز صموده وحمايته من الفساد وتحقيق العدالة في توزيع الثروات وتكافؤ الفرص، وتعزيزاً للوحدة الوطنية، اتخذت الحركة قرارها بالمشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية" على حد تعبير البيان.
تزامنا مع ذلك وفي خضم التحضير للعملية الانتخابية في العام 2006 أشارت الكثير من استطلاعات الرأي من مراكز وجامعات فلسطينية ذات مصداقية في الداخل الفلسطيني إلى تقدم حركة فتح بمراحل عن منافسها الأكبر حينها حركة حماس، وكان هناك شبه إجماع على أن نتائج الانتخابات وفقا لاستطلاعات الرأي تصب في صالح حركة فتح. لكن المفاجئة كانت في فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي بواقع 74 مقعدا من المقاعد الـ 132 في حين أن حركة فتح حصلت على 45 مقعداً فقط. لم يكن هناك غبار على سير العملية الانتخابية ولم يشكك بمسارها أحد، فهذه الانتخابات وصفت حينها بالنزيهة بشهادة مراقبين دوليين توجها تقرير مركز كارتر الذي تولى حينها الرقابة على الانتخابات.
فازت حماس، وقام الرئيس الفلسطيني حينها محمود عباس بلقاء مرشح حركة حماس لرئاسة الحكومة اسماعيل هنية وطلب منه رسميا تشكيل الحكومة الجدية في مشهد لم يرق للكثيرين وعلى رأسهم إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. كان أهم ملامح رفض هذه النتائج واضحا في شروط اللجنة الرباعية وغيرها من العقبات التي وضعت أمام حماس لجعل مشاركتها في العملية السياسية الفلسطينية شبه مستحيلة. لم يمر الكثير من الوقت قبل أن ينشب نزاع بين الفصيلين الرئيسيين حماس وفتح تمخض عنه الكثير من العنف الذي شهدته الضفة الغربية وقطاع غزة أدى الى إنقسام عمره اليوم 14 عشر عاما. خلال هذه السنوات لم يشهد الفلسطينيون أي نوع من الانتخابات وأصيبت العملية الديمقراطية بشلل كامل. ولم تتمكن الكثير من الحوارات التي استضافتها عدد من الدول العربية على رأسها مصر وبعض من المحاولات الإقليمية الأخرى في جسر الهوة ما بين الأخوة الفرقاء. لكن المشهد كان يزداد تعقيداً وتجذر الانقسام ما بين حماس المسيطرة على قطاع غزة وفتح المسيطرة على الضفة الغربية. وظل الوضع على هذا الحال إلى يومنا هذا.
وهنا قد يثار التساؤل الهام حول لماذا الإصرار على عقد الانتخابات في الوضع الحالي بكل ما يشوبه من تعقيدات؟ ويمكن القول بأن انتخابات 2021 اضحت مطلوبة لأسباب كثيرة أهمها:
1- شعور الرأي العام الفلسطيني بإحباط عام يتمحور في تراجع دوره في المشاركة بالقرارت المتعلقة بالقضية الفلسطينية بشكل أساسي وبقرارات تمس حياته اليومية ومعاملاته بكافة نواحيها، وذلك بسبب غياب أدوات التغيير السياسي المتمثلة بالانتخابات وغياب عمل المجلس التشريعي مما يمنح الرئيس الفلسطيني سلطة إصدار القوانين بمراسيم رئاسية.
2- يُضاف إلى ما سبق، إدراك الشعب الفلسطيني بأن الإنقسام الكبير بين الفصيلين الرئيسيين لا بد وأن ينتهي وقد تكون هذه الإنتخابات في نظر البعض هي الخطوة الأولى في طريق تصالح حقيقي يتجاوز الاختلافات الداخلية وينظر للتحديات الأكبر التي تواجهها القضية الفلسطينية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها.
3- هناك شعور بالغضب الداخلي لما وصلت إليه القضية الفلسطينية إبان وجود الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في البيت الأبيض حيث أنه قام بخطوات لم يسبق لأي من الروساء الامريكيين القيام بها وعلى رأسها الاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة إسرائيل متجاوزا كل الاتفاقيات والقوانين الدولية المتعلقة بوضع المدينة المحتلة. ويطمح الفلسطينيون في حال إجراء هذه الانتخابات بشكلها المطلوب أن تمنحهم هامشا للمناورة في الساحة الدولية خاصة مع وجود إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض.
4- هذه الانتخابات أيضا من شأنها أن تجدد الشرعية لكافة مكونات المشهد السياسي الفلسطيني خاصة وأنها ستتم على ثلاث مراحل وفقا للمرسوم الرئاسي الذي أصدره الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأولى للمجلس التشريعي في مايو ومن ثم أخرى للرئاسة في يوليو والمجلس الوطني في أغسطس من العام الحالي.
لكن وبالرغم من أهمية إجراء الانتخابات لما ذكر سابقا من النقاط إلا أن هناك في المقابل ضبابية تشوب المشهد تجعل الكثير من المراقبين للشأن الداخلي الفلسطيني يجزمون بعبثية إجراء هذه الانتخابات بشكلها وتوقيتها الحالي لأنها تقف بمواجهة عاصفة من أسباب التي قد تقود أي من مراحلها لفشل قد لا تحمد عقباه لعوامل يلي ذكرها:
1- تحدث هذه الانتخابات في ظل انقسام عمره 14 عاما لم تفلح قيادات فتح وحماس في إنهاءه بالتفاوض والوصول إلى نقاط تفاهم على قضايا محوريةـ فهل ستضمن نتائج الانتخابات هذه إنهاء هذا الانقسام أم تعيد تجذيره وتثبت ركائزه في النسيج الفلسطيني الهش بفعل عوامل كثيرة يظل الاحتلال أولها وأكثرها سطوة. وفي حال فشل وصول فتح وحماس إلى حال من التصالح كنتيجة لهذه الانتخابات قد يكون هذا الفشل هو القشة التي تقسم ظهر القضية التي تعاني أصلا من كسور يصعب جبرها.
2- ليس فقط الانقسام ما بين فتح وحماس هو ما يشوب المشهد، لكن فتح ذاتها مرت بتغييرات كثيرة ومتتالية خلال السنوات الماضية، وبعض هذه التغييرات كان لها عمق اقليمي ودولي. فعلى سبيل المثال أصدرت حركة فتح في يونيو/حزيران 2011 بيانا رسميا أعلنت فيه فصل القيادي في الحركة وعضو لجنتها المركزية محمد دحلان من عضوية الحركة، وإحالته إلى القضاء للتحقيق معه في قضايا متعددة. أضف إلى ذلك تشكيل قائمة تضم كل من ناصر القدوة وزير الخارجية الفلسطيني الأسبق وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومروان البرغوثي القيادي في فتح والقابع حاليا في سجون الاحتلال الاسرائيلي. لكن في المقابل لا تعاني حركة حماس من أي انقسامات داخلية ظاهرة ويعود ذلك لدورية اجراء انتخابات داخلية سرية يتم من خلالها تصويب أوضاع الحركة داخليا. وقد تكون انقسامات حركة فتح المتعددة في صالح حماس في هذه الانتخابات في حال قيامها.
يقف الفلسطينيون مجددا أمام اختبار لكنه هذه المرة في مشهد أكثر تعقيدا على الصعيدين الداخلي الاقليمي والدولي، ولعل المطلع على حيثيات القضية الفلسطينية بكافة تعقيداتها يدرك جيدا بأن الوضع الفلسطيني يمر بمرحلة قد تكون مفصلية في تاريخه لعب بها الانقسام ما بين فتح وحماس دورا كارثيا وأفقد القضية زخمها على الساحة الدولية. ليس هذا فحسب لكن قضايا شائكة أخرى تتعلق بهذه الانتخابات لازالت عالقة حتى وقت كتابة هذا النص لعل من أهمها واشدها حساسية في الوقت الحالي هي مشاركة المقدسيين في هذه الانتخابات وسط تعنت اسرائيلي وجدل فلسطيني حول الآليات. وحده الوقت هو الذي سيوضح ملامح المشهد القادم.