هل خرب بيت الولايات المتحدة حقاً؟..د. أحمد رفيق عوض

الإثنين 11 يناير 2021 11:36 ص / بتوقيت القدس +2GMT
هل خرب بيت الولايات المتحدة حقاً؟..د. أحمد رفيق عوض



شهدنا في القرن العشرين انتهاء عدد من الامبراطوريات اما بالحرب المباشرة او بالتفكك الداخلي او كليهما، اذ انهارت الامبراطورية العثمانية بالحرب والحصار والفساد والانعزال عن العالم، وانهارت العسكرتاريا اليابانية والفاشية الالمانية والقومية الايطالية، وكذلك تآكلت بريطانيا الرأسمالية البروتستنتية والرأسمالية الفرنسية الكاثوليكية، وانهارت روسيا الشيوعية التي اعتقدت انها وصلت الى نهاية التاريخ، وورث كل ذلك رأسمالية أمريكية تحولت بسرعة الى امبريالية عولمت المال والانتاج والافكار وحتى الامزجة، وقد اعتمدت في ذلك على السلاح غير المسبوق، الذي تحول إلى أهم اشكال الانتاج واكثرها ربحاً واقدرها على فرض النفوذ حتى انها جعلت من مجرد ورق مطبوع عملة عالمية. شهدنا في القرن العشرين ثورات غيرت وجه العالم إلى الأبد، فقد انشطرت الذرة وتم تجميعها من جديد، وتم استنساخ الخلايا، وتغيرت وسائل الاتصال بحيث هزمت الزمان والمكان وأصبح الذكاء الاصطناعي يهدد المجتمعات من حيث الوظائف والسكن والصحة والصناعة، ولم تعد الكرة الارضية تكفي للمواجهة والمنافسة والصراع، فانتقل الانسان الى الفضاء يعسكره ويسممه ويحتله أيضاً. وفي القرن العشرين أيضاً رأينا انهيار القوميات والافكار والايديولوجيات، ورأينا كيف تفكك العرب الى قوميات وجمهوريات متناحرة، ورأينا كيف تم خداع المواطنين اليهود في اصقاع الأرض، وتحولوا من خياطين وصائغين ومدرسين الى محاربين في كيان لم يتوقف عن الحرب منذ ان أعلن عن انشائه عام 1948.

هذا يعني ان التاريخ لا يتوقف عند جماعة او دولة او فكرة، مصداقاً لقوله تعالى "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فالدول والحضارات مجرد تداول للإرث والقوة ووسائل الانتاج، لا تتوقف شعلة الحضارة على أحد أو جماعة، بل هي شعلة متنقلة دوارة.

أقول ذلك كله، لأصل إلى المشاهد التي رأيناها يوم الأربعاء الماضي في الكونغرس الأمريكي، وهي مشاهد تذكر بحصار الدوما الروسي وقصفه بالدبابات سنة 1991. المتظاهرون، أو الثوار، أو المتمردون الأمريكيون القادمون من الأطراف، والممتلئون غضباً ورفضاً لأمريكا الملونة والليبرالية والعاجزة، والذين يعتقدون أن أمريكا البيضاء البروتستنتية المنعزلة والمكتفية ستضيع من بين أيديهم، وأنهم لن يحكموها مرة أخرى لأسباب ديموغرافية وطبقية ودينية، هؤلاء الغاضبون أعلنوا انهم يرفضون الديمقراطية الامريكية وقوانينها ويرفضون مؤسسات الدولة العميقة، ويحتجون على سياسات المؤسسات المالية المعولمة، ويرفضون حكم الملونين والاشتراكيين واليساريين الأمريكيين. وعلى الرغم من أن معظم الجهات رفضت تسميتهم بالثوار، فهم ليسوا من العالم الثالث، ولا تستطيع مراكز الابحاث ولا صناع القرار السياسي ولا الاعلامي ان يشرعنوا حراكهم او يتبنوا مطالبهم، الا ان هذا الحراك عكس عمق الازمة التي يعيشها النظام السياسي والطبقي والاجتماعي الامريكي، وهي أزمة ثقافية وعرقية وديمغرافية واقتصادية أيضاً. بما يدل على أن ترامب الذي بدا لكثيرين أنه متهور وشعبوي ومهرج إلى حد كبير انما يعكس ما يدور في أعماق أمريكا من نزعات للسيطرة واختطاف الحكم والثورة على النظام السياسي الذي يدرك عمق أزمته المالية والسياسية والاجتماعية.

وباختصار شديد، فإن اقتحام الكونغرس بهدف تغيير نتيجة الاقتراع، مجرد بداية لتغيرات وحراكات اجتماعية وسياسية وأمنية قد نشاهد نتائجها سريعاً. الامبراطوريات الكبرى لا تنهار دفعة واحدة بالضرورة، فهي تأخذ وقتاً قد يطول أو يقصر. ولن تكون الولايات المتحدة فوق التاريخ او بقرة مقدسة لا يسري عليها منطق الاشياء. بل هي دولة عظمى مثل كل الدول التي عاشت طفولتها وشبابها، وهي الآن تدخل طور الشيخوخة. هذه هي باختصار نظرية استاذنا وحبيبنا ابن خلدون، الذي اقام نظرية على عصبية قبلية او دينية، وهي غير موجودة بالذات في دولة تضم بين جنباتها مئات القوميات والديانات والمرجعيات. ولن تكون الدولة الحديثة بقادرة على تقديم كل الاجابات وهذا ما نراه ليس في الولايات المتحدة فقط، وانما في كل دول الغرب تقريباً.