لا شك، أن الانتخابات الأمريكية للعام 2020، تلقي بظلالها على كافة الأحداث العالمية، بل تهيمن وقائعها على مختلف وسائل الاعلام ليس فقط الأمريكية وإنما العالمية، حتى كدنا نتابع مشاهدتها في البيوت، ونراقب نتائجها على مدار الساعة.
فنتائج هذه الانتخابات ستشهد تحولات عميقة في الحياة السياسية الأمريكية، حيث فرض تفشي وباء كورونا فايروس ركوداً اقتصادياً غير متوقع ألقى بظلاله على النتائج الي بدأت تظهر، فقبل تفشي هذا الفايروس، كانت كل المؤشرات تُظهر أن الرئيس ترامب سيكون الأوفر حظاً وسيتوحه بأقل جهد نحو ولاية ثانية، بأدنى معدل بطالة تاريخياً وبمكاسب اقتصادية قوية وبإنجازات سياسية خارجية مرتفعة، ولكن يبدو أن أولى ضحايا هذا الفايروس سياسياً هو الرئيس ترامب، حيث تشير النتائج الأولية والأرقام التي تُظهرهاعمليات الفرز، إلى تقدم المرشح عن الحزب الديمقراطي "جو بايدن" وهو ما سيعيد تشكيل المشهد السياسي الأمريكي،خصوصاً بعد أن تسبب ترامب بخلق حالة من الصراعات والتوترات لم يسبق لها مثيل، ليس فقط فيما يتعلق بالسياسة الداخلية الأمريكية، وإنما بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ولكن نظراً للاهتمام الكبير بنتائج الانتخابات الأمريكية ليس فقط من المتخصصين بالشؤون السياسية، وإنما من قبل المواطنيين العاديين، وذلك لما تعكسه نتائج هذه الانتخابات على الشأن الدولي بكل تقاطعاته، وهذا ما يجعل من الضرورة تناول بعض الحقائق والمعطيات لطبيعة النظام السياسي الأمريكي وآليات عمله، فالدستور الأمريكي والذي يعتبر الأقدم والأقصر كدستور مكتوب ومعمول به دون إنقطاع في العالم، ويتصف بالجمود إلى حدٍ ما، إذ يحتاج تعديله إلى إجراءات غير عادية، فهو يحتاج إلى ثلثي أعضاء الكونغرس من أجل التعديل، أو مواقفة ثلاثة أرباع الولايات حتى يتم التعديل.
ويميز السياسة الأمريكية عن غيرها من سياسات الدول الغربية النمط البراغماتي المتحذر في عمق اللا وعي الجمعي للإنسان الأمريكي، والذي يقوم على فكرة ما يمكن عمله وما هي الطريقة المثلى للعمل، فالحملات الانتخابية لا تنطلق بناءً على شعارات عقائدية، وإنما تجرى بناء على نوعية المرشحين وشخصياتهم، وما يحتمل أن يفعله بعد الانتخابات، لذلك ليس غريباً أن يتجنب الأمريكيون كلمتي الدولة والحكومة، وإنما يفضلون الحديث عن الإدارة، وهو التعبير الأقرب للشكل البراغماتي الذي يفضلون أن تنتهجه حكومتهم المنتخبة بعيداً عن المبادئ التي يمكن أن تسقطهم في أحضان الديكتاتورية حسب اعتقادهم، ولهذا ىالسبب تتميز الانتخابات الأمريكية بضعف بنيتها التنظيمية، فالإنتماء للحزب لدى الجمهور الأمريكي ليست قضية حياة أو موت، ولا ينتج عن عقيدة راسخة بمبادئ الحزب وأهدافه، فالأحزاب بالنسبة للمواطنين الأمريكيين عبارة عن جسر يوصل الفرد إلى غايات وحاجات يمكن أن يحققها البرنامج الحزبي أو شخصية الرئيس المنتخب.
سيطرة الحزب الديمقراطي على الحكم في الولايات المتحدة على مدى 30 عاماً، بمساعدة التحاف الذي التف حول الرئيس "فرانكلين روزفلت" عام 1932 والذي عرف باسم العهد الجديد وبرنامجه لمعالجة الأزمة الاقتصادية والتي اطلق عليها فترة الكساد الكبير عام 1929، وقد جذب هذا البرنامج صغار المزارعين، النُخب المثقفة من البيض، النقابات العمالية، والكثير من السُود، بينما الحزب الجمهوري الذي تأسس عام 1854 من جانب النشطاء المناهضين للرق، وأصبح بسرعة المنافس الرئيس للحزب الديمقرطي ويضم المواطنيين ذات التوجهات العقائدية المختلفة: المحافظين، والمحافظين الاجتماعيين والمحافظين الجدد، والليبرالية الاقتصادية، والشعبوية واليمين الديني. وقد تمكن الحزب من السيطرة على الرئاسة والكونغرس على مدار أعوام 1861-1931، وقد كانت لأزمة الكساد الكبير العامل الرئيس في تراجعه، حتى العام 1982 وهي الفترة التي تولى فيها الرئيس "ريغان" مقاليد الحكم في الولايات المتحدة. وتشير بعض التقديرات إلى أن هناك 25% من المواطنيين الأمريكيين يعرفون أنفسهم بالجمهوريين، فيما يعرف 31% أنفسهم بالديمقراطيين، بينما يعرف 38% أنفسهم بالمستقليين، وهذه الأرقام تؤكد بما لا يدع للشك أن حسم أي انتخابات في الولايات المتحدة يعود لمدى أقتناع المستقلين ببرامج المرشحين لمنصب الرئاسة.
فانتخاب الرئيس ونائبه هي عملية انتخابية غير مباشرة، إذ يقوم الأمريكيون أولاً بانتخاب المجمع الانتخابي الذي يقوم بدوره بانتخاب الرئيس ونائبه، وبدأ هذا النظام منذ العام 1789، وهو ما يشير إلى أن عمر النظام الانتخابي الأمريكي يزيد عن 240 عاماً، وهذا يطرح سؤال حول أبعاد التشكيك بنتائج الانتخابات التي يقوم بها الرئيس "ترامب" وانعكاسها على صورة الولايات المتحدة؟.
ويحق لأعضاء المجمع الانتخابي التصويت لأي من المرشحين للمنصب الرئاسي، ويصادق الكونغرس على صحة نتائج الانتخابات في شهر يناير/ كانون ثاني، حيث يعتبر ذلك الحكم النهائي على صحة الانتخابات ونتائجها، وهو ما يظهر أننا أما 3 شهور عجاف ما بين الانتخابات والتسليم ستشكل تحدى أمام النظام السياسي الأمريكي بكل تشعباته.
فلم يحدد الدستور الأمريكي طريقة إختيار أو انتخاب المجمع الانتخابي، وإنما تركها لمشيئة الولايات وفقاً لتشريعاتها وقوانينها الداخلية، فهناك ولايات تعين حصتها من أعضاء المجمع الانتخابي بطريقة الاقتراع المباشر، بينما أخرى، تعينهم بالتصويت بمجالس النواب، أما اليوم، فقد أصبح المجمع الانتخابي موحد لجميع الولايات، وهكذا، فإن المواطنون الأمريكيون يصوتون عموماً لأحد مرشحي المجمع الانتخابي، والذي كان قد تعهد بالتصويت لرئيس ونائبه محددين، ويضم المجمع الانتخابي (538) ناخباً، وهو يساوي عدد أعضاء الكونغرس بشقيه ( 435 مجلس نواب و100 مجلس شيوخ) ويضاف إليهم (3) أعضاء من مقاطعة كولومبيا والتي تعرف بواشنطن دي سي، ويتغير هذا العدد بناء على الإحصاء السكاني الذي يجرى كل عشرة أعوام.
في المقال القادم، سيكون قراءة لتداعيات تصريحاتالرئيس ترامب الرافضة لنتائج الانتخابات على النظام السياسي الأمريكي.