العبث بمصير الشعب ممنوع...مضر قسيس

الخميس 05 نوفمبر 2020 02:23 م / بتوقيت القدس +2GMT



نحن في أزمة، ويحتاج مشروعنا التحرري الوطني الفلسطيني إلى انطلاقة جديدة، نابعة من واقعنا الراهن، ومن التحولات الكبرى التي يمر بها العالم، تعكس الدروس المستخلصة من تجربتنا النضالية بنجاحاتها وإخفاقاتها، تكون مجديةً لإنجاح المشروع التحرري، وقادرة على تجنب ما من شأنه أن يعثّر هذا المشروع.
لا أقصد بنجاح المشروع التحرري الانتصار على إسرائيل من عدمه، فالمشروع يتعلق بمصيرنا وليس بمصير إسرائيلـ، ولا أقصد الاعتراف الدولي، فالاعتراف هو اعتراف بالواقع، أما الاعتراف بالحق من عدمه، فلا ينشئ حقاً ولا يلغيه. ولا أقصد بالنجاح بناء الدولة، ولا التسوية السياسية، رغم أن هذه كلها تشكل جزءا من القضايا التي يتوجب علينا، بشكل أو بآخر، الخوض فيها. ما أقصده بالنجاح يتلخص في حرية الشعب. ويتجسد النجاح سياسياً بممارسة تقرير المصير، لا بالاعتراف بالحق، رغم ضرورته، ولا بإنشاء الإطار السياسي المؤسسي لممارسة الحق على المستوى الوطني (أي الدولة)، بل إن "الدولة" نتاج، أي تحصيل: نحن ننشئ دولتنا لأننا أحرار. ولا يتجسد النجاح بتحرير الأرض، فالأرض لن تكون حرة ما لم يكن فلاحوها أحراراً، ولا قيمة للأرض بدون شعب يفلحها، وأقول يفلحها وليس يستثمرها، ولذلك فإنني أُعلي تقرير المصير (أي تحرير الإنسان) على تحرير الأرض وبناء الدولة، وأؤكد أنني أُعلي الأول ولا أعتقد بتساوي المكونات الثلاثة.
أكتب هذه السطور وأنا متفائل رغم الضم، والتطبيع، والانقسام، واستمرار الاحتلال، والجائحة، والفساد، والوضع الاقتصادي المزري، إلى آخر قائمة تطول، وأزيد أن تفاؤلي عميق، ولكنه مشروط، وصعب التحقيق، وطريقه مؤلم، والمهم هو أنه واقعي قابل للتحقيق. للتفصيل بشأن واقعية تحقيق الحرية، أشير إلى تحقق الشرط الأول، وهو الإرادة – توق الشعب الفلسطيني للحرية وإصراره عليها.
أما بشأن الشروط الأخرى، والظروف، فيعزز تفاؤلي ما أراه من تراجع للقوى الرجعية التي عملت لما يزيد على قرن، ولا تزال، على تركيع شعبنا، بيد أننا نشهد اليوم تقهقرها وانهيار مقومات هيمنتها. لم تفشل هذه القوى حتى اللحظة في مهمتها، فهي لم ترتدع، ولا تزال تسعى إلى تركيعنا قضماً، وقسمةً، وتبعية، وتطبيعاً، وجهلاً، وبطرق أخرى، لكنها باتت تستخدم آخر ما في جعبتها، وباتت غير قادرة على إخفاء وقاحتها وصلفها، وباتت تأكل ما تبقى من مقومات شرعيتها. لقد شكلت هذه القوى جزءاً مركزياً وقاعدة للمنظومة التي رافقت تراجع مكانة وأفق القضية الفلسطينية منذ بداية تسعينات القرن الماضي حين تراجعت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن مساواة الصهيونية والعنصرية، ثم بات الخطاب الدولي يشترط موافقة القوة المحتلة لتحقيق الحق الفلسطيني، وصولاً إلى الضرب بعرض الحائط بالحق، وإعلان صفقة صفيقة. بيد أن حقبة العولمة النيوليبرالية التي أنتجت هذه التراجعات هي الآن قيد الانهيار، وبتنا اليوم نشهد عولمة سقوطها. بات تغير السياق العالمي مرة أخرى محتماً مع سقوط العولمة النيوليبرالية، وهو سقوط محتوم كحتمية سقوط حصان جامح تمسك برسنه الأقطاب المتصارعة في الحرب المتجددة، التي يسعى ساستها إلى سوس الحصان الجامح، لكن الحصان شرد، وصراع الساسة سيضمن سقوطه في الهاوية. بقي أن يتيقن العالم من السقوط قبل أن يدرك أن لا خيار غير بناء نظام عالمي جديد فيه مكان للعدالة.
وفي النظام العالمي العتيد، مهما كان طابعه، موقعان، وبالتالي فإن مشروعنا أمام خيارين: إما السقوط مع الحصان الشارد وانتظار التعافي، أو المساهمة في بناء العالم من جديد، ولكن، للصمود (عدم السقوط) شروط ذكرتها أعلاه. أهم هذه الشروط هو أن نتخلى عن التشبث بأي ممن يمسكون برسن الحصان، وثانيها، أن نقف على أرض صلبة، ونبتعد عن الرمال المتحركة. وثالثها، وهو أهم، أن نحدد مواقفنا وتحالفاتنا بناء على قضيتنا الرئيسية، وأن لا نصوغ مواقفنا وفق تحالفاتنا ووفق ما يُشغلنا به العدو، بل وفق بوصلة تشير إلى هدفنا الرئيسي (حريتنا). ورابعها، أن لا نكابر، وأن نمارس نقد الذات بدون جلدها، وأن لا نصور فشلنا في معركة انتصاراً، فصدقنا وشفافيتنا، وديمقراطية حركتنا التحررية، وعقلانية ومبدئية مواقفنا هي أيضا شرط لكسب الحرب ولو خسرنا بعض المعارك.
لننظر قليلاً إلى الوراء، لن أتوقف عند "أوسلو"، ولا عند الانقسام، فلا توجد بشأنهما أخبار، فالجميع يعرف ويشاهد وقعهما ويسعى إلى الخروج من إطارهما. ولكن السؤال الهامّ هو ما الذي أوصلنا إليهما؟ فالخطر المحدق بقضيتنا هو أن نعيد إنتاج ظروف من شأنها أن تبقينا في منظومة من علاقات القوة تشكل محصلتها ما يشبه صفقة أوسلو، ويشكل الانقسام إحدى تبعاتها، وهلمّ جرا.
آخر مرة كسرنا فيها منظومة علاقات القوة كانت إبان الانتفاضة الأولى. حينها فقد الاحتلال سيطرته على حياتنا، وجنَينا تبني العالم لقضيتنا وتعاطفه ودعمه لحقنا في تقرير المصير. ولكننا بين نجاحات الانتفاضة وتحقيق ما يمكن تحقيقه، تمكنّا من حرف مسار مشروع التحرر، من تقرير المصير، إلى ما عرف في اتفاقيات أوسلو بقضايا الوضع النهائي. في هذه اللحظة التاريخية تمّ التخلي عن تقرير المصير في سبيل سراب الدولة وبدون تحرير الأرض – معادلة اتضح أن محصلتها سلطة وحسب. لم يتم ذلك نتيجة خطأ، ولكنه كان نتيجة لضياع البوصلة، عقدين قبل ذلك، حين بدأت الوسيلة المتمثلة بالقانون الدولي تتحول هدفا، وبدأت شكلية القانون تأخذ مكان الجوهر، فتحول تقرير المصير من فعل جوهره ممارسة الإرادة الحرة إلى نسق جوهره تأطير الإرادة في نظام سياسي. ومع الممارسة، تحولت العلاقة بالأرض من علاقة الشعب بالطبيعة إلى علاقة المُقترض بالبنك.
حاضرنا مُزرٍ. وبالإمكان لوم منظمة التحرير الفلسطينية والإقرار بحاجتها إلى الإصلاح، ولوم السلطة على أدائها أو حتى على وجودها، ولوم "حماس" على قائمة طويلة من الممارسات والنتائج، ولوم اليسار على غيابه وفشله، ولوم الكهول والشيوخ على استئثارهم بالقرار، ولوم الشباب لأنهم لم يستلموا الراية، ولوم الذكور، ولوم النساء. لكن هذا كله لا يجيب على السؤال الرئيسي: هل يوجد لدى جميع من يلامون هدف يجتمعون عليه، وما هو؟ أو ماذا يجب أن يكون؟ إذا كان الهدف هو السلطة، فهناك خلاف حول من يستحقها؛ وإذا كان الهدف هو الأرض، فهناك خلافات حول حدودها وملكيتها؛ وإذا كان الهدف هو الدولة، فالخلاف حول السلطة والأرض يتحول خلافاً حول الشعب، وتصبح القضية بلا ذات — فهي قضية لأنها قضية شعب.
لكن ما الذي يريده الشعب؟ ما هي قضيته؟ إن الأمر الوحيد الواضح حول إرادة الفلسطينيين الجمعية، أي تلك التي يجب أن لا يختلف عليها اثنان هي الحرية، واسمها في السياسة تقرير المصير. أما الحدود، والدولة، والموارد، والعودة، والأسرى، والمستوطنات، وكل ما جرى تفتيت القضية إليه إنّما يتوزع بين متطلبات الحرية، وتبعاتها، ولا معنى أو مغزى لأي منها بدون الحرية، أما نتيجتها فهي السيادة، وهذه نتيجة وليست مقدمة.
إننا جاهزون موضوعياً للمستقبل، وبقي أن نجهز ذاتياً، فالسلطة الفلسطينية، التي كانت على مدى الربع قرن الأخير، الأقل مزايدة، والأكثر تواضعاً في مطالبها. قالت لا لإسرائيل، ولا لأميركا، ولا للتطبيع العربي، وفعلت ذلك بدون مزايدة، فلم يعد هناك مكان للأوهام، ولكننا لن نتمكن من مواجهة الولايات المتحدة، ولا حتى إسرائيل وحدنا بدون تحالفات، أولها الوحدة الوطنية خلف برنامج سياسي من بند واحد هو تقرير المصير الحر – وليس إنهاء الانقسام، ولا اقتسام السلطة. لا ضير في أي من هذه الأمور، لكنها ليست هدفاً ما دامت لا تجسد الحرية، أما تحويلها إلى شرط، فيجعل مصيرنا مشروطاً.
وثاني هذه التحالفات، هي التحالفات العربية. لا نحتاج إلى حلف مع أي نظام عربي. نحتاج إلى حلف مع كل شعب عربي، وهذا الحلف مع الشعوب هو الذي يضمن عدم انزلاق الأنظمة، وفي هذه الحالة لن نخسر حليفاً بالتطبيع أو غيره، طالما لم تطبّع الشعوب!
وثالث هذه التحالفات، وهي التحالفات الدولية، يجب أن تتمحور حول التضامن الأممي، وليس حول العلاقات الدبلوماسية. والتضامن يتطلب التبادلية والندية، ونحن وإياهم أنداد بصفتنا شعوباً، وليس بصفتنا دولاً. علينا أن نساند قضايا الشعوب، وأن لا نكتفي بانتظار مساندتهم لنا. من غير المقبول أن يسكت شعب يناضل في سبيل الحرية على قمع شعب آخر، تحت شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية. يجب أن ننزع عن أنفسنا وهم السيادة، فنحن نعلم أنها لم تتحقق، ولا نريد سيادة تحترم من يحتقر حريتنا وحرية الشعوب الحليفة لنا. لست أدعو إلى قطع العلاقات مع الحكومات أو المنظمات، ولكن علينا بناء التحالفات على أساس بوصلة التحرر، وليس أي بوصلة أخرى.
هذه محاولة لبلورة المنهجية التحررية فكرياً، وتحديد بوصلة تمكننا من الوحدة. لا أطلب من أحد التخلي عن الدولة، ولا تأجيل العودة، ولا تحرير الأرض، ولكنني أقول إن المعيار، والبوصلة، والهدف، هي: الحرية. وإن استبدال الهدف بالوسيلة، من شأنه أن يغيّب الهدف، وتصبح الوسيلة عبثاً، والعبث بمصير الشعب ممنوع.