قالت صحيفة “نيويورك تايمز” إن أهم ما تكشف عنه نتائج الانتخابات الأمريكية (حتى الآن على الأقل) هو الانقسام بين المعسكر المؤيد للرئيس الحالي دونالد ترامب، والمعسكر الرافض له.
ويرى مات فلينغهيمر في “نيويورك تايمز” أن المرشح الديمقراطي ونائب الرئيس السابق جوزيف بايدن، ظل يقول إن ترامب هو حالة شاذة وانحراف عن المسار وهو لا يعبر عنا، و”ليست هذه أمريكا”. لكن البلد القلق يعيد في نهاية العام السؤال قائلا له “هل أنت متأكد؟”، فالبنسبة للملايين من أنصار ترامب، فقد تغيرت الأمور للأحسن، حيث شعروا أن لديهم رئيسا يفهم مطالبهم، ورحبوا بالتحولات التي أجراها في مرحلة ما قبل فيروس كورونا على الضريبة والحرب التجارية مع الصين وتوسيع الجناح المتطرف في المحكمة العليا.
ولكنهم كان يردّون بعمق على الغضب لا على المنطق، مثل مشاجراته مع النخبة والمؤسسات، وتهديده للمحافظين الذين أرادوا النظام، وضد الأعداء المشتركين.
وبالنسبة لملايين الأمريكيين، فقصة هذا البيت الأبيض هي أكثر قبحا. فهي عن الانقسام من أجل مصالح ترامب الذاتية، والذي دفع إلى انزلاق مفاصل الحكومة لتصفية الحسابات ودعم المتفوقين البيض والحكام الأقوياء في الخارج، وأي شخص تحدث بكلام جميل عن الرجل الذي يدير البيت الأبيض.
وكان يوم الثلاثاء بمثابة امتحان لرؤية الطرفين خاصة الديمقراطيين الذين اعتقدوا أن هناك فرصة للفوز السريع. وحتى قبل انتهاء هذا الموسم الإنتخابي وإعلان الفائز فقد قدمت العملية الانتخابية صورة عن أمريكا وهويتها، وما قام به ترامب من تغييرات وما لم يغيره وما ينتظر بايدن لو كافأه الأمريكيون على رهانه.
فأمريكا اليوم هي التي قام فيها أصحاب المحلات بوضع الحمايات على متاجرهم، توقعا لعنف ما بعد الانتخابات. وهي نفسها التي أصبح فيها الأنصار يحلمون أحلام اليقظة بوضع معارضيهم السياسيين بالسجن ويقوم فيها الرئيس بالضغط على وزارة العدل لمتابعة هذه الأحلام.
وهي أمة دفعت بها حركة حياة السود مهمة قضيتها في الشوارع وقامت قوافل أنصار ترامب بملء الطرق السريعة والقنوات المائية بأعلام ترامب “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. وهي أمة لو كانت طريقة مشاركة الناخبين فيها علامة تحركت بطريقة لم تمر على الذاكرة في تحد للوباء. فقد خرج الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع بالأقنعة والقفازات ووضعوا أصواتهم بأنفسهم وانتظروا في الطوابير الطويلة وتدفقوا في الأحياء احتفالا بالديمقراطية. ونقل عن ناج من مذبحة باركلاند في فلوريدا قوله: “لا أعرف بصدق المؤسسات الحكومية”، حيث كان أول مرة يصوت فيها مضيفا: “ولكن الشيء الذي أعرفه أنها تعمل بقوة الناس”.
ويتساءل الكاتب عن الوضع في أمريكا، وكيفية حل مشاكل الماضي ورؤية كل طرف للمستقبل، التي ليست بأي منهما ولا يمكن حلها عبر حملة انتخابية واحدة. وهناك مخاطر في بلد قرر اتباع مثل أول رئيس أسود لها ثم جاء رئيس دفع بالعنصرية ونظريات المؤامرة حول مكان مولد الرئيس الأسود.
وعلى خلاف الماضي فإن هذه الإنتخابات كشفت عما يريده الأمريكيون لأنفسهم وما يتوقعونه من قادتهم. وفي مقابلات أجرتها الصحيفة مع ناخبين عبروا فيها عن مخاوفهم من عدم قدرتهم على التعرف على بلدهم.
وفي هذه الحملة، فإن صورة الأشعة التي حملها كل طرف، عكست مخاوفه على مصير البلد. وقال مؤيد لبايدن في فيلادلفيا: “تتعلم عن نفسك وعن الآخرين والبلد” و”المدى الذي وصل فيه الاستقطاب مثير للخوف”.
وتقول مؤيدة لترامب إنها تشعر بأنها غريبة عندما تعبّر عن مشاعر مؤيدة لترامب. وما يدعو على الراحة أن كل طرف يعرف عن خياراته. ففي الوقت الذي كانت فيه رئاسة ترامب قبل عامين نظرية، حيث أخبر جمهورا في حينه “ماذا ستخسر؟” إلا أن مسؤولية الحكم من الصعب فهمها الآن. وكان هناك أمل أن يتغير بالمسؤولية، لكنه ظل كما هو حيث اتبعت المؤسسات ما يريده وتكيفت للتعامل معه. وجاء المستشارون والمساعدون وذهبوا بعدما اختلفوا مع ترامب. وكان ترامب واضحا أن الولاية الثانية ستكون مثل الأولى: فوضوية ولا تهتم بوحدة الأمة.
ورغم معاناته من مرض كوفيد- 19 والعزلة بسببه، إلا أنه ظل يدير حروبا حزبية تهم جهات سياسية بعينها، ورفض الالتزام بالإرشادات الصحية، وفاقم الخلاف الذي تسرب إلى مؤسسات الدولة وأبنائها. وعندما هتف أنصار بايدن على أنصار ترامب مطالبين إياهم بارتداء الكمامات، رد هؤلاء عليهم: “البسوا حفظاتكم”.
وكانت رسالة ترامب في الأيام الأخيرة من الانتخابات واضحة، وتقوم على صيغة نحن ضد الآخر. واتهم ترامب الأطباء بالمبالغة في أعداد الوفيات من فيروس كورونا للتربح منه، واختلف مع برنامج “ستون دقيقة” وألمح إلى أنه لن يقبل بنتائج الانتخابات إن لم تكن في صالحه.
وظلت رسالة بايدن تدور حول هذا السؤال: “هل تصدقون هذا الرجل؟” في إشارة إلى ترامب. ولو كانت ولاية ترامب الأولى تبدو كحدث لم يسبق وقوعه، فالأيام المقبلة ستكون بمثابة امتحان عظيم، خاصة لو أعلن ترامب عن فوزه قبل نهاية العملية الانتخابية.
وبالطبع فالطريقة التي سيتصرف فيها ترامب لم تكن أبدا بيد الأمريكيين. فعندما لا يوجد شخص يقول له “لا” أو حاول، فالجواب على تصرف له يجب أن يكون “نعم”. ويعرف ترامب أن هناك الملايين معه، سواء ربح أم خسر؛ لأنه بالنسبة لهم الرمز الذي يدافع عنهم وعن البلد ضد زحف اليسار.
وقالت بيني نانس مدير جمعية النساء الحريصات على أمريكا، وهي منظمة مسيحية محافظة: “لم نصوت له لكي يكون راعينا أو زوجنا.. بل صوتنا له لكي يكون رجل الحراسة لنا”.
لكل هذا لم يسمح الديمقراطيون لأنفسهم بالحديث عن ترامب بكونه مجرد “نقطة مضيئة” على الشاشة ثم اختفت، فهم يعون درس هزيمة 2016. وكل الذين يحبون ويكرهون ترامب ينظرون إليه على أنه رجل لديه قوة سياسية ضخمة لا تنطبق عليها قوانين الجاذبية، فقد فاز في 2016 رغم خسارته الأصوات الشعبية للمعارضين له الذين يحتقرونه ولا يثقون به.
وقال خبير الاستطلاعات في عهد باراك أوباما، كورنيل بيلتشر: “هذا رجل لم تكن الغالبية منفتحة له”. و”أتفهم أن البرق يضرب مرتين في المكان نفسه، ولكنني متأكد كما جهنم أن هذا ليس محتملا”. واقترح أن جاذبية ترامب للنفور العنصري هي موهبته الوحيدة.
ولم يكن لا هو ولا أوباما الشخصين القادرين على التعامل مع مشاكل أمريكا. وقدم بايدن نفسه على أنه “المرشح الانتقالي” الذي يستطيع نقل الأمة خلال مرحلة التصارع الداخلي. واستطاع التغلب على منافسيه في الحزب الديمقراطي الذين كان هدفهم التخلص من ترامب أولا، وبعدها التفرغ لحل المشاكل.
وظل بايدن يوجه الضربات لترامب حول النزاهة والقدرة على الحكم، وطلب من كامالا هاريس الانضمام إليه في بطاقة السباق حيث وفى بوعده تعيين امرأة كنائبة له.
ومن المفارقة أن بايدن يقدم نفسه كرجل المؤسسات في بلد فقد الثقة بها ويواجه مشاكل في الأمن والمحاكم. والعمل على إصلاح كل هذا ليس سهلا لكن التخلص من ترامب هو البداية. وفي الوقت الذي تعهد فيه بالعمل مع الحزب الآخر إلا أنه خاض الحملة ضد الواقع، حيث حاول التعامل مع دعوات التقدميين لتوسيع عضوية المحكمة العليا وراقب زملاءه الجمهوريين السابقين وهم يهاجمون عائلته.
وما كشفت عنه الحملة الانتخابية هو عن مدى الشق في أمريكا والذي قد يتوسع بعد إعلان النتائج النهائية. وفي الأسبوع الماضي حاصرت حافلات مؤيدة لترامب قافلة انتخابية لبايدن- هاريس في تكساس. ووصف ترامب الذين شاركوا فيها بـ”الوطنيين” ولم يرتكبوا أي خطأ. وعلق بايدن: “نحن أفضل من هذا.. نحن لسنا مثلهم”.