عن جدوى هذا النوع من المقاطعة..عبد الغني سلامة

الأربعاء 04 نوفمبر 2020 10:38 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن جدوى هذا النوع من المقاطعة..عبد الغني سلامة



نحن العرب والمسلمين، وشعوب العالم الثالث عموماً لا نملك شيئاً ذا قيمة نقدمه للعالم، وأقصد هنا أشياء مادية، كأدوات الإنتاج مثلاً، أو صناعات حقيقية، أو تكنولوجيا متطورة.. كنا نملك البترول، ولم نعد نملكه فعلياً، ولم يعد قطع النفط عن العالم سلاحاً بأي معنى.
حقيقة لا نملك سوى أنفسنا كقوة استهلاكية، أو سوق كبيرة لمنتجات الغير.
كان الزميل أكرم عطا الله قد نشر مقالاً تساءل فيه: «ماذا لو اختفى العرب جميعاً؟ ماذا لو أفاق العالم فجأة واكتشف أننا لم نعد موجودين؟ بالتأكيد لن يخشى من خسارة أي شيء، فلن ينقطع الإنترنت ولن تتوقف الأقمار الصناعية، ولا مصانع السيارات، ولا حركة الطائرات والقطارات، ولن تتوقف أسواق البورصة، ولن يفتقد أي مواطن في العالم أي نوع من الدواء ولا المعدات الطبية، ولا حتى السلاح الذي يقتل به بعضنا بعضاً، فلم نقدم للعالم أي خدمة سوى الكلام وصورة قتل بعضنا في الصحف ونشرات الأخبار».
ونظراً لضعف حالنا، وتشرذمنا، وهواننا على أنفسنا، وبالتالي هواننا على العالم، فقد اعتاد الآخرون على الاعتداء علينا، واحتلال بلداننا، ونهب مقدراتنا، وإهانة مقدساتنا ورموزنا.. كنا نواجه المعتدي بما توفر من أدوات، وسلاح بدائي، وقد خضنا العديد من الثورات، وقدمنا تضحيات جساماً.. فقد كانت لدينا إرادة، وإحساس بالكرامة، ورغبة بالثورة والتغيير.
اليوم، تغير العالم، وتغير معه معظم المعطيات التي كانت سائدة، ونحن بدورنا تغيرنا.. ولكن على ما يبدو فقدنا البوصلة.  
ومع كل ذلك، ما زلنا نمتلك أدوات وأسلحة فعالة، لكننا لا نجيد استخدامها، أو نستخدمها بالاتجاه الخاطئ، ومنها سلاح المقاطعة.
في العام 1989 أصدر الخميني فتوى باستباحة دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي، بسبب روايته «آيات شيطانية».. والتي قال عنها إنها مسيئة للرسول.. وهنا لم يتأخر المسلمون في الاستجابة، على الفور خرجت مئات التظاهرات في مختلف مدن العالم، أحرقت، وكسّرت، وهددت، ونددت.. وبعد أن كانت الرواية مغمورة، ولم يسمع بها أحد صارت من أشهر الروايات العالمية، ولم يبقَ مثقف أو فضولي إلا وقرأها.
وفي العام 2006 نشر رسام دانماركي كاريكاتيراً قيل عنه إنه مسيء للرسول، وتكرر الأمر مرة ثانية.. موجة غضب عاتية امتدت من الرباط حتى جاكارتا، أحرقت في طريقها الأخضر واليابس، وتمت الدعوة لمقاطعة المنتجات الدنماركية.. علما أن تلك الصور كانت قد نشرت قبل أربعة أشهر من شيوع الخبر ولم ينتبه لها أحد، ولولا تلك الضجة لبقيت في عالم النسيان.
في 2015 هاجم مسلحون مجلة شارلي إيبدو بباريس، وقتلوا 12 شخصاً وأصابوا 11 آخرين، بسبب نشرها رسوما كاريكاتيرية اعتبرت مسيئة للرسول.. وخرجت تظاهرات غاضبة في مختلف مدن العالم تندد بالرسوم. وفي الشهر الماضي قتل طالب فرنسي مسلم معلمه، لأنه أعاد نشر تلك الرسوم أمام التلاميذ. وكما هو متوقع عمّت التظاهرات الإسلامية مدناً عديدة تنديداً بالرسوم.. إضافة إلى دعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية.
لا جدال في أن حرية الرأي لا تبرر التطاول على الرموز الدينية للشعوب، وأنه لا يوجد مسلم يقبل بتوجيه إهانة للرسول الكريم، ولكن هل مجرد رواية، أو بضع صور «أجزم بأن جموع الغاضبين لم يروها» سبب كافٍ لكل تلك الموجات العاتية من السخط والغضب!
وطالما أن الأمر يتعلق باحترام الرموز الدينية فلنا أن نتساءل: كم مرة داس الجنود الصهاينة المصحف الشريف تحت بساطيرهم في السجون الإسرائيلية؟ كم مرة أحرق الجنود الأميركيون صفحات من القرآن الكريم في معتقل غوانتانامو؟ ألم يحرق إسرائيلي المسجد الأقصى؟ ألم يقتل متطرف إسرائيلي عشرات المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي؟ ألم ينتهك الشرف العربي بالمعنى المباشر في معتقل أبو غريب على يد مجندة أميركية؟
ألم تسقط بغداد أمام أعيننا وعلى الهواء مباشرة دون أن نحرك ساكناً؟ ألم تسقط أفغانستان من قبلها في القبضة الأميركية؟ ألا يعتبر احتلال فلسطين وتدنيس الأقصى إساءة لمشاعر المسلمين! ألا يمثل مقتل آلاف العراقيين والسوريين واليمنيين وأكثرهم من الأطفال سبباً كافياً لاستفزاز المشاعر الإسلامية؟ ألا يستحق ضم الجولان وافتتاح سفارة أميركية في القدس تظاهرة واحدة؟
لماذا لم نعد نتأثر ونحن نتلقى كل هذه الإهانات؟ لماذا لم نسمع طوال هذه الفترة عن دعوات لمقاطعة البضائع الإسرائيلية ولا الأميركية! ولم نرَ جموع الغاضبين وهي تندد بالسياسة الأميركية! لم تتعرض المصالح الإمبريالية لأي خطر!.
طبعاً، النزول للشارع، وتسيير التظاهرات والمقاطعة الاقتصادية.. أسلحة فعالة، وضرورية، حتى يحسب الغرب لنا ألف حساب قبل أن يفكر في إهانة مقدساتنا أو الاعتداء علينا في المستقبل.. على ألا تكون مجرد هبات عاطفية، وأن تكون في الاتجاه الصحيح. لكن ما يحصل حالياً مقاطعة تصب في مصلحة حرب تجارية تقودها وتؤججها الولايات المتحدة لخدمة مصالحها من جهة، ولتعميق العداء الأوروبي / الإسلامي من جهة أخرى وحتى تظهر هي في النهاية كدولة حيادية تحترم معتقدات الآخرين.
وهي أيضاً فرصة ثمينة لأردوغان وغيره لأن يظهر في زي حامي حمى الإسلام، ليتزعم العالم الإسلامي، ولخدمة اقتصاد بلاده.. كما فعل من قبله القذافي والأسد.
بدلاً من مقاطعة زبدة اللورباك، وجبنة كيري، وقلايات التيفال، وهي منتجات استهلاكية، لنفكر في مقاطعة ذات جدوى، أو لنفكر بتطوير صناعاتنا، وتطوير عقولنا، لعل واقعنا يتغير، فيحترمنا الآخرون.
هنا في فلسطين، البعض يقاطع المنتجات الفرنسية، ولا يتورع عن شراء التبوزينا والشمينت وجبنة عيمك.. وآخرون ينادون بفتح باريس، وهم عاجزون عن دخول معبر قلنديا.. في بعض دول الخليج المطبعة التي انضمت لقائمة الدول التي تحظر وتجرم حركة مقاطعة إسرائيل BDS، تصدر فيها دعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية!! «أروني موقفاً أكثر بذاءة» (مظفر النواب).