أنت لا تعرف كيف تنتقل هذه الأفكار، فجأة، تلتقي بفتاة عشرينية قد تزوجت منذ أيام وإذا بها تتمنى ان تحمل وتضع مولودا ذكرا، وكأن كل نقمة الدنيا على الإناث قد انتقلت إليها، لا تتوقع أن فتاة قد تخرجت لتوها من الجامعة وتلقفها أحد الشباب لتصبح زوجة له لمجرد أنها جامعية ولا تريد ان تعمل بل ستكتفي بلقبها وسوف تبقى في البيت تنتظر راتبه البسيط لتدير شؤون حياتهما، فإذا بطنها يتكور وتنتقل لها تلك العدوى: انها تتمنى ولدا وترجو من كل من حولها ان يدعو لها بالولد.
كنت مختلفة عن كل هؤلاء الفتيات والنساء اللواتي ما ان تتزوج الواحدة منهن حتى تتمنى لنفسها انجاب الولد، وتتمنى ان تسمع تلك الأمنية ممن حولها، ولكني كنت أتمنى أن أنجب بنتا، وكانت رغبة صادقة وملحة واصبح لدي إحساس قوي انني سأضع بنتا أمام اعتراض من حولي خاصة ان الأب وحيد امه وينشد العزوة والسند.
كنت امرأة مختلفة تقابل أحلامها بالاستنكار والاستهجان، حتى صديقاتي وزميلاتي اللواتي تزوجن في نفس الفترة التي تزوجت فيها بدأن يظهرن أمانيهن في انجاب الولد، ولم تتردد إحداهن عن رغبتها الملحة بذلك لأن زوجها وعدها بهدية ثمينة في حال انجبت له الولد كأول مولود بكر، وكنت استمع لتلك الأماني مستغربة من صديقاتي وزميلاتي اللواتي حفرن الأوراق وهن يكتبن مواضيع التعبير والإنشاء عن التمييز بين الجنسين، وأضرار وعواقب ذلك على المجتمع وتأكدت ان تلك الأفكار لم تكن سوى من باب الإنشاء فعلا وزخرف القول لا أكثر.
عشت اجمل أيام حياتي وأنا أضع مولودتي الأولى أنثى، ولم أتوقع ان تصبح نسخة مني، ولكني تمنيت لها حياة افضل في مجتمع افضل، وحلمت لها ومن اجلها، ولكنها كبرت واصطدمنا سويا بمجتمع يراها بنتا، ويواسيني لأنها بنت، ويواسي والدها بالأمنيات أن يأتي بعدها عشرة من الذكور، ويلحقون ذلك بقولهم المأثور: «ان شالله بتربي لكم الصبيان».
وكأن البنات في البيوت قد خلقن لتربية الصبيان مع الأمهات، وقد انتقلت عدوى ضرورة هذه المهمة من الأمهات أيضا إلى البنات، لم يخلق بعد الجيل المتمرد، فترى الأم تصرخ بابنتها: أعدي طعام العشاء لأخيك المتعب العائد من العمل، وقد تكون البنت قد انتهت من دراستها للتو، أو أنها تستعد لامتحان في الجامعة، ولكن يجب أن تفعل البنت ما جبلت عليه الأم.
ربما كان علي ان اكتب كل هذه المقدمة الطويلة لاستميح العذر من ابنتي، ففي يوم البنات الجميلات الغاليات المؤنسات يجب أن اقدم الاعتذار إلى ابنتي، ذلك الاعتذار الذي سأظل أجدده حتى آخر حياتي، أنا يا صغيرة فشلت في أن أقدمك إنسانة إلى المجتمع، فأنا نظرت لك كإنسانة وروح، وقد نظر لك المجتمع بكل ما فيه وأنت ما زلت روحا بجسد غائب في رحمي على أنك بنت.
تذكرين تلك العلامات العالية التي كنت تحصلين عليها في المدرسة، وتذكرين ولا تحتفظين بشهادات التكريم والجوائز في خزانتك، تذكرين عبارة أبيك حين كان يردد في أسى: «بتظل بنت، بكرة بتتجوز وبتروح» ....
وكبرت وكنت أنت الأكبر والأغلى يا رفيقة، يا رفيقة الكفاح، ويا رفيقة الأحلام، تعلمين انني اطلب منك العذر في كل مناسبة، في يوم البنات العالمي وفي يوم المرأة العالمي، وحتى في يوم الأم، وفي كل يوم يا صغيرة، أقول لك انني أسفة، إنني مقصرة وإنني لم استطع ان أنقلك لمكان يحترم فيه الإنسان لأنه إنسان.
تعرفين يا صغيرة حبي لك وتعرفين انني فرحت بك لأنك بنت، ولكن أحدا لم يشاركني الفرحة، ولا احد قد شعر انني بحاجة لصديقة صغيرة ملفوفة في «الكافولة» لكي أشكو لها أنني مستضعفة ومعنفة وضائعة وتائهة في مجتمع ذكوري وأنني أريد ان اصبح قوية بك ولك ولي.
تعرفين المواجهة مع المجتمع حين كبرت كبنت، وتعرفين الحرب التي ما زالت جبهتها مفتوحة لأنك تصرين ان تقفي في مجتمع يصر على ان تكوني نائمة على سرير ولادة لتنجبي الذكور، تعرفين ان معركتنا طويلة ولكني يا صغيرة سعيدة لأنك تقوين، يشتد عودك مع كل محاولة للتهميش، وسوف تصلين، لأنك تؤمنين بأنك إنسان، وبأنك أفرحت قلب إنسان حين جئت إلى هذه الحياة.