في شباط العام 2016 ألقى السيد حسن نصر الله خطاباً قال فيه إن على إسرائيل أن تفكر ملياً إذا ما قررت مهاجمة لبنان، فقوة نيرانها التي يمكنها تدمير لبنان يمكن الرد عليها ببضعة صواريخ، وهذه إن أصابت ميناء حيفا حيث مستودعات نترات الامونيا فإنها تقتل الآلاف وتدمر المدينة بأكملها.
لا أحد يعلم اليوم إن كانت تلك الرسالة هدفها التهديد فقط أو التنبيه لإزالة حاويات الأمونيا من ميناء حيفا حتى لا يسقط عليها أحد صواريخ حزب الله بالخطأ وتحدث كارثة لا يعلم مداها إلا الله، وقد يكون التهديد والتنبيه معاً.
لم يكن السيد حسن نصر الله يرسم سيناريو للبنان عندما هدد أو نبه، ولكن لإسرائيل، وهو على الأغلب لم يكن لديه علم بأن ميناء بيروت فيه منذ العام 2014 ما يقرب 2750 طناً من الأمونيا، لأنه لو علم بذلك لما تحدث في الموضوع حتى لا يلتقط الإسرائيليون المسألة ويستخدموها ضد لبنان اذا ما وقعت الحرب، ولربما أجل حديثه هذا الى حين التخلص مما هو موجود في ميناء بيروت.
المهم إسرائيل تعاملت مع رسالة حزب الله بجدية عالية وأزالت حاويات الأمونيا من حيفا، لكن المسؤولين في لبنان الذين كانوا يعلمون بوجود نفس الخطر لديهم لم يعيروا اهتماماً لما قاله السيد نصر الله، وكأن الأمر لا يعنيهم.
هل السبب هو الإهمال المصحوب عادة بلامبالاة شديدة؟ هل هو ذلك الإيمان العميق بأن كل شيء في عالمنا العربي ترافقه العناية الإلهية التي بخلافها لكان كل شيء قد انهار في بلادنا العربية من محيطها لخليجها منذ وقت طويل؟ ولعله أيضاً، الاثنتان معاً.
شاءت الأقدار أن يحدث الانفجار-الكارثة في لبنان، وكيفية حدوثه هي موضع تحقيق، وجميع الاحتمالات مفتوحة ابتداء من شرارة كهربائية حدثت أثناء قيام البعض بأعمال صيانة عادية، وانتهاء بقيام جماعة أو دولة معادية بزرع عبوة ناسفة. التحقيق فقط هو ما سيكشف كيف وصلت النيران الى مستودعات الأمونيا، ولماذا بقيت هذه المستودعات في الميناء ستة أعوام رغم خطورتها.
كارثة بيروت كشفت المستوى الكارثي لفساد النخب السياسية في لبنان. والحق يقال، إن هنالك قواسم مشتركة تجتمع عليها النخبة السياسية في عالمنا العربي، وهي لذلك ليست خاصة بلبنان وحده. هذه الخصائص هي:
إهمال ولامبالاة تصل لدرجة الاستعداد للتلاعب بأرواح عشرات الآلاف من المواطنين. لا يوجد انسان لديه القليل من الشعور بالمسؤولية يُبقي كمية هائلة من مواد شديدة الانفجار في مكانٍ الناس فيه بالآلاف. في الحالة اللبنانية، إذا كان هنالك جهل بخطورة نترات الامونيا، فإن خطاب نصر الله بشأن ميناء حيفا كان تنبيهياً للإسرائيليين، فلماذا لم يكن كذلك لمسؤولي لبنان الذين يعلمون عن حاويات الأمونيا.
وفي الحالة العربية عموماً، علينا أن نتذكر العبارات التي غرقت في البحر والقطارات التي خرجت عن سككها والعمارات التي سقطت على رؤوس ساكنيها، ومئات الملايين من الدولارات التي نُهبت، فقط لأن هنالك من لم يقم بواجبه من أعمال صيانة، أو لأن بعض الأموال التي دخلت الجيوب من التلاعب بالمواصفات كانت أهم من أرواح الناس.
عقلية ثأرية تصل لدرجة الفجور السياسي همها الوحيد الانتصار على خصومها حتى لو كان ذلك على حساب أشلاء عشرات الضحايا وآلاف الجرحى ومئات الآلاف غيرهم من المهجرين. في لبنان، يتجرأ البعض على اتهام البعض بأنه السبب وراء الانفجار قبل صدور نتائج التحقيق، في الوقت الذي يلتف فيه الجميع في دول أخرى غير عربية حول «علم الدولة» عند وقوع الكارثة.
في الحالة العربية الأوسع، نشاهد صراعاً بين دول عربية في أماكن بعيدة عنها لا مصلحة مباشرة لها في هذا الصراع إلا الانتقام من بعضها البعض، ولا يهم إن كان الخاسر الأكبر من هذا الصراع هم العرب أنفسهم بما فيها الدول المتصارعة. المهم أن يحقق البعض انتصاراً على البعض العربي الآخر حتى لو كان ذلك الانتصار الكاذب على أشلاء الضحايا وبعد تدمير البلد الذي يجري فيه الصراع.
أداة صدئة لخارج لم يعد راغباً في التدخل المباشر بقواته العسكرية في شؤون المنطقة رغم كل توسلهم له. في الحالة اللبنانية تجرأ البعض على توقيع عريضة تطالب الرئيس الفرنسي ماكرون بإرسال القوات الفرنسية الى لبنان لإعادة الانتداب. العريضة وقعها ثلاثون ألفاً من أنصار سمير جعجع في لبنان.
وفي الحالة العربية، يمكن استحضار دور النخب السياسية العربية في استدعاء التدخل الخارجي في العراق وسورية وليبيا، حيث تُركت هذه البلدان جميعها لقدرها بعد التدخل لتتحول الى دول فاشلة طاردة للملايين من شعوبها وغير قادرة على حماية حدودها أو ما تبقى من مواطنيها من مخاطر الإرهابيين والمتناحرين، أو حتى على حماية ثرواتها من الطامعين بها من الخارج أو من الفاسدين فيها من الداخل.
معادون لكل مشاركة شعبية في صياغة مستقبل بلدانهم السياسي، إلا إذا كانت هذه المشاركة تخدم أهدافهم. في الحالة اللبنانية آخر انتخابات نيابية جرت في أيار العام 2018، ومن المفترض أن تكون الانتخابات القادمة بعد أقل من سنتين، لكن من خسر في تلك الانتخابات من النخبة السياسية أو بعضهم على الأقل، لا يحتمل تلك الخسارة ويريد أن يفرض انتخابات جديدة في غير موعدها وبقوة الاحتجاج في الشارع.
في العالم العربي، شاهدنا حالات مماثلة سابقاً. المضحك أن من فرضوا الانتخابات في غير موعدها، تمكنوا باستخدام الحديد والنار من منع أي مشاركة شعبية لاحقاً في العمل السياسي وأصبحت انتخاباتهم «شرعية» الى الأبد.
هنالك سمات أخرى لنخبتنا السياسية العربية بالتأكيد، لكن ليس فيها ما يدعو إلى التفاؤل: قناعتهم بأن شعوبهم متخلفة ولا زالت بحاجة لوصايتهم، استعدادهم لحمل السلاح بوجه بعضهم البعض رغم رفضهم لحمله في وجه عدوهم المشترك، استعدادهم للتحالف مع أعداء شعوبهم لتعزيز مواقعهم السياسية، والقائمة تطول.
يقال، وأميل شخصياً الى رفض ذلك، بأن العرب يحبون حتى الموت ويكرهون حتى الموت. لكنه...الموت في كلتا الحالتين.