إثنا عشر عاما تلت خطوات آلاف المشيعين في جنازة كبيرة تقدمها جثمان الشاعر محمود درويش لمثواه الأخير في مدينة رام الله. درويش، ذلك الرجل قليل الكلام كثير الشعر، والشعر هو أرقى أشكال الكلام فهو تطويع الكلام لمعان سامية فتسقط عنه صفة الدارج من القول. هذا الشاعر الذي يعد من أهم شعراء المشهد العربي والعالمي المعاصر واحد أهم شعراء المقاومة الذي كان له الشعر أداة يوصل بها عدالة قضيته والجور الذي حل بأهله وبلده. ترجل هذا الفارس في الثامن أغسطس عام 2008 بعدما عاشت معه بيروت وفيه، وعاش هو فيها بعلاقة تجلت شعرا نابضا في كثير مما نظم.
محمود درويش المولود في قرية البروة في الجليل، بالقرب من مدينة عكا، علاقته بالوطن كعلاقة ساعي البريد بالمظاريف التي ينقلها، فهو يحمل الوطن وقضيته موزعا همومه في ثنايا شعره على زوايا الكون، بينما لا يملك من الوطن من شيء حقيقي. حتى وإن كان الظاهر انه عاش سنوات في فلسطين بعد عودته لزيارة والدته في الداخل الفلسطيني المحتل، وخلال فترة زيارته قدم بعض أعضاء الكنيست الإسرائيليين والعرب طلبا بتصريح له بالبقاء في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية وكان له ذلك.
محمود درويش لم يعرف وطنا بالمعنى الحقيقي للكلمة، فقد خرج من قريته البروة التي عاش فيها منذ ولادته في العام 1941 إلى نكبة فلسطين في العام 1948، حيث خرج منها مع أهله ومن طرد من الفلسطينيين ذلك العام، ليعودوا إليها بعد عام فيجدوا أنها عادت أثرا بعد عين، وتحول ركام قريتهم المهجرة إلى قرية زراعية إسرائيلية "للقادمين الجدد من يهود العالم" لكن أسرته استمرت في عيشها في "القرية الجديدة".
تخرج من الثانوية في مدينة عكا وانتقل للدراسة في الاتحاد السوفييتي في العام 1972 وكانت له القاهرة لاحقا سكنا ومعاشا حين انتقل إليها بعد إنهاء دراسته والتحق للعمل بصحيفة الأهرام، ومن هنا بدء بنسج علاقات مع أصدقاء شعراء له مصريين منهم عبد الرحمن الأبنودي وآخرون. ومن القاهرة، إلى عمان ثم باريس وتونس وقبرص وغيرها من منافي الأرض التي بحث فيها جاهدا عن وطن مسلوب يرتع فيه محتل وهب نفسه الحق في طرد أهلها وادعاء عدم وجودهم أصلا.
لكن علاقة محمود درويش في هذه الأماكن اختلفت باختلاف المراحل الزمنية وإحداثها السياسية على الصعيدين الفلسطيني والإقليمي والدولي، وحدها بيروت كانت حاضرة معه يحملها بين ثنايا قصائده بلا كلل ولا ملل. عل وجوده هناك كان يحمل له نسمات من الهواء الفلسطيني المسلوب، مختلطة بأنفاس أمه التي بقيت على مرمى حجر منه كما قال الشاعر السوري سميح شقير، واصفا حال من شتتهم الاحتلال وحال بين حلم الوطن قائلا: بيني وبين أهلي وناسي رمية حجر، جمحة فرس، قفزة فوق شريط وفوق خوذات الحرس. لكن درويش لم يقفز فوق الشريط الحدودي وبقي ينتظر أنفاس أمه العابرة لمساحات القهر في المنفى وتيه الأوطان.
استقر محمود درويش -إن أمكننا القول أنه استقر في أي مرحلة من مراحل حياته- في بيروت لمدة تسعة أعوام منذ 1973-1982، راحلا عنها بحلول الاجتياح الإسرائيلي. خلال تلك الفترة أسس فيها مجلة الكرمل وعاش وعمل في بيروت فألهمته وخلدها بين ثنايا شعره محبا لها، وحزينا عليها، ومشتاقا إليها وساخطا على محتلها وعدوها.
وحينما سئل فيما إذا كان يحب بيروت أجاب قائلا: لم انتبه، فنادرا ما تحتاج إلى التأكيد من أنك في بيروت، لأنك موجود فيها بلا دليل، وهي موجودة فيك بلا برهان، صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت، صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران. مضيفا: أنا لا أعرف بيروت، ولا أعرف إن كنت أحبها أم لا أحبها ولعلّ الجميع أدركوا أن لا بيروت في بيروت، فهذه السيدة الجالسة على حجر صورة لزهر عباد الشمس تتبع ما ليس لها، وتجر عشاقها وأعداءها على السواء إلى دورة خداع البصر، فتكون لهم أو عليهم ولا تكون لهم أو عليهم.
اليوم وبعد إثني عشر عاما من رحيلك أقول لك بأن "تفاحة البحر" ليست بخير لكنها ستكون، وهي اليوم تئن لكنها ستنهض وتفرح، وأشلاء أبنائها لازالت تحت الردم تقبع لكنها من رحم المأساة ستنجب أجيالا تستمر وتزهر.فلروحك الخالدة بشعرك الرحمة يا درويش الوطن المسلوب، وفي ذكرى وفاتك لبيروت من كلماتك اليوم نقول:
تُفَّاحةٌ للبحر, نرجسةٌ الرخام
فراشةٌ حجريّةٌ بيروتُ . شكلُ الروح في المرآة ,
وَصْفُ المرأة الأولى، ورائحة الغمام
بيروتُ من تَعَبٍ ومن ذَهَبٍ , وأندلس وشام
فضَّةٌ , زَبَدٌ ’ وصايا الأرض في ريش الحمام
وفاةُ سنبلة . تشرُّدُ نجمةٍ بيني وبين حبيبتي بيروتُ
لَم أسمع دمي من قبلُ ينطقُ باسم عاشقةٍ تنام على دمي .....وتنامُ...
مِنْ مَطَرٍ على البحر اكتشفنا الاسم , من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب , كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروتَ