تتسارع الأحداث التي من المؤكد أن المُنتصر الوحيد فيها خاسراً لا محالة، وإذ تعصف تلك الأحداث يوماً بعد يوم بقدرة السلطة القضائية في فلسطين على حماية المصالح الاجتماعية، فإنها في الآن نفسه تُشكل إهداراُ لكل المُمكنات التي تجعل منها سُلطة مُستقلة ومحايدة قادرة على حماية الحقوق والحريات العامة وتأمين النظام السياسي الفلسطيني إستعانةً بطبيعة اختصاص هيئاتها القضائية المختلفة.
وابتداءً لقد تزاحمت العوامل والأسباب التي أدت إلى هزيمة سلطان القضاء ومن بعدها إلى هذا الموضع، الذي يراد له فيه أن يكون، فلم يستطع مواجهة أول أزمة سياسية ضربت النظام السياسي الفلسطيني في العام 2007م، بعد أن وضعت الأطراف المُتنازعة يدها عليه، عبر تحشيد وتعيين قضاة موالين لكل طرف سياسي، ومن هنا دخلت السلطة القضائية في النفق المُظلم، وتوالت أنماط تدخل الطبقة السياسية في منظومة العدالة، دون أي مُراعاة لحرمة القانون الأساسي الفلسطيني، الذي يُمثل القدر الأكبر من الإرادة الشعبية كونة قُر بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، إضافة إلى قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م، سواء من خلال تجاوز الآلية القانونية المًتصلة بتشكيل مجلس القضاء الأعلى أو التوزيع الجغرافي، أو من خلال تعيين قضاة المحاكم أو النائب العام، فأصبح لدينا مجلسين قضائيين في رام الله وغزة، ونائبان عامان، ومع ذلك لم يفلح الجيش القضائي الحزبي في حماية الحقوق والحريات العامة، لأنه افتقر إلى متطلبات الضمان القضائي الخاصة بحماية الحقوق والحريات العامة، والمُتمثلة في الاستقلال والحياد والمساواة والقضاء الطبيعي.
وفي ضوء ما سلف بيانه فإن الأزمة الحاصلة في مرفق القضاء، مردها تجاوز الطبقة السياسية لمقتضيات العدالة والمبادئ الدستورية الراسخة، عبر التدخل بسلطاتها التنفيذية المُتعاقبة في شئون السلطة القضائية،وتجاهل كافة النداءات التي وجهتها المؤسسات الحقوقية في حينه لجهة وقف محاولاتها الرامية للهيمنة على السلطة القضائية على اعتبار أن ذلك مُسماراً يدُق في نعش الحلم نحو بناء مجتمع سياسي مُنظم يحتكم إلى الدستور وتشريعاته والمبادئ الديمقراطية الحديثة، والقول بأن الازمة مردها قانون السلطة القضائية فإنه يُجانب الصوب قولاً واحداً، والشاهد أن قواعده استجابت لمتطلبات الضمان القضائي بشكل واضح لا لبس فيه، من خلال مبدأ عدم قابلية القضاة للعزل، وعدم جواز التدخل في شئون القضاء واستقلاله والمساواة أمامه ورسمت طريق تشكيل القضاء الطبيعي، والملاحظات القليلة التي تعتريه لا ترقى إلى جعله سبباً للأزمة الحاصلة.
إن الأحداث التي تتوارد وتُنذر ببداية تصاعد الرفض الشعبي والأهلي لتجربة مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، وموقف نقابة المحامين من فشل تجربة الانتقالي وتجاوزه لمتطلبات الإصلاح القضائي، وكذلك روايات الجهات الداعمة لتشكيل المجلس الانتقالي المُستندة إلى حالة الفساد الذي اعترت المجلس السابق، وإحالة قضاة سابقين للقضاء بتهمة التشهير برئيس المجلس الانتقالي، وضعف السلطتين القضائية في كُلاً من رام الله وغزة في حماية الحقوق والحريات العامة وحسم القضايا الكبري المُتصلة بأزمات النظام السياسي الفلسطيني المُنهار، هي نتائج، وبالتالي ينبغي ألا يتم التعامل مع النتائج وإنما مع الأسباب والعوامل التي هزمت السلطة القضائية وأفرغتها من مضمونها، وجعلتها غير قادرة على تحقيق رسالتها وأدخلتها في أزمات مُتتابعة.
إن التعامل مع أزمة السلطة القضائية في فلسطين يستوجب أن يتم من خلال التأصيل الشامل والرجوع إلى المقدمات الأولى التي وضعت السلطة القضائية في هذا الموضع، ومن ثم العمل على وضع العلاج المناسب لها، العلاج الشرعي الذي يستند إلى المقررات القانونية ذات العلاقة، كما ينبغي أن يتم التعامل مع النظام السياسي الفلسطيني على أنه جسماً واحداً وأن تعطل عضواً فيه سوف يؤثر سلباً على البقية فلا سلطة تنفيذية مشروعة دون وجود سلطة تشريعة تُراقب أدائها وتضبطه وتمنحها الشرعية ولا سلطة قضائية فاعلة دون إصباغها بالاستقلال والحياد والمساواة والقضاء الطبيعي والتشريعات الحديثة التي تُسهم في إقامة العدل على النحو المرجو، ولا سلطة تشريعية تًمثل الإرادة الشعبية دون دورية انتخابها، وبالتالي لا مناص من إجراء التدخل القانوني والشرعي وإلا فإن الأزمة سوف تبقى تًراوح مكانها، أو تتطور لحالة الانهيار الشامل الذي لا يتمناها أحد.
إن السلطة القضائية الفلسطينية واحدة لا إثنتان، والتدخل الجراحي ينبغي أن يطال الضفة الغربية وقطاع غزة، لجهة تأمينها وجعلها قادرة على الوفاء بالتزاماتها، وفي ضوء فشل الحوارات السابقة لجهة توحيد القضاء بسبب تشبث كل طرف في مواقفه، فإن مهمة تحقيق التدخل الفعال تتطلب إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني برمته والخروج من النفق المظلم لمواجهة الاستحقاقات السياسية لدولة فلسطين، وذلك يتطلب تدخل أصحاب السيادة من خلال الضغط الشعبي الموضوعي غير المُسيس، ومن ثم تبني برنامج عدالة انتقالي ودفع أثمانه بكل تجرد، من ثم إصدار مرسوم رئاسي لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بالتزامن، والبرلمان ممثل الإرادة الشعبية هو القادر على معالجة أزمة السلطة القضائية وتوحيدها والسلطة التنفيذية بما ينسجم مع القانون الأساسي وقانون السلطة القضائية والتزامات فلسطين الدولية.