خلال متابعتي لمشاهد التعزية التي اكتظت بها مواقع التواصل الاجتماعي، تحركت في نفسي صفحات من الذكريات التي جمعتني بالأخ والصديق العزيز د. رمضان شلَّح (أبو عبد الله)، حيث كان لقاء التلاقي الأول بيننا خلال المؤتمر الذي عقدته لجنة فلسطين الإسلامية (PIC) في مدينة شيكاغو بولاية الينوي الأمريكية تحت اسم (الانتفاضة طريق الانتصار) عام 1990م.
في ذلك المؤتمر، الذي حضره المئات من الشخصيات الفلسطينية والإسلامية، كان لي فرصة لتداول الحديث مع د. رمضان حول همومنا المشتركة، والتي مثلت محور اهتمامنا كأصحاب قضية حظيت بالكثير من الدعم والتأييد على مستوى شعوب المنطقة وفضاءات الأمة الإسلامية، ولكننا كفلسطينيين – للأسف - ما زلنا نعاني بشكل عام من فقدان البوصلة أو الاختلاف على اتجاهات مسارها.. كان اللقاء بمثابة تعارف وفرصة لمتابعة الحوار في لقاءات قادمة.
ومن الجدير ذكره، أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT) بمدينة "هيرندن" الواقعة في محيط العاصمة واشنطن، كان يعقد مؤتمراً سنوياً يتم فيه دعوة شخصيات فكرية ونشطاء في مجال العمل الإسلامي على الساحة الأمريكية، وكنا نشارك بالحضور في مثل هذه الأنشطة الفكرية والدعوية، والتي اعتبرت كمحطات للقاء والتعارف بين النخب الإسلامية في إطاراتها الحركية، التي لا تبتعد في جذورها الفكرية عن أطروحات الإمام حسن البنَّا والشيخ أبو الأعلى المودودي.
كان معظم الإخوة المشرفين على مركز الإسلام والعالم يشاركون أيضاً في هذا المؤتمر، ويطرحون أفكارهم ويطورون علاقات وسبل التواصل فيما يخص القضية الفلسطينية مع هذه النخب الإسلامية المتميزة، وكان د. رمضان (أبو عبدالله) لا يتأخر عن المشاركة والحضور، وهذا ما عزز من تلاقح الأفكار وتقارب الرؤى وتمتين العلاقة بيننا شيئاً فشيئاً.
نعم؛ كانت فترة الثمانينيات تشهد تدافعاً داخل الصف الإسلامي حول فكرة "المركزية"؛ أي أن فلسطين هي قضية الأمة العربية والإسلامية الأولى، فيما كان البعض يعترض على المصطلح؛ باعتبار أن قضايا المسلمين كلها مركزية، رغم خصوصية فلسطين ومنزلتها الدينية والحضارية في التاريخ الإسلامي.. كنا – آنذاك - مع تسويق مقولة "فلسطنة الضمير الإسلامي" كمصطلح أقرب للتوافق الإسلامي، وذلك في سياق الحشد والتعبئة لدعم القضية الفلسطينية ونصرتها.. كان بيننا -كتيار إسلامي فلسطيني في أمريكا- بعض السلوكيات الخلافية التي أظهرتها المؤتمرات والنشرات التي كانت تصدر عن كل طرف من حين لآخر، فالاتحاد الإسلامي لفلسطين واللجنة الإسلامية لفلسطين، كانا يتحركان بمرجعيات فكرية تعود جذورها لما كان قائماً بين الإخوان المسلمين التنظيم الأم الذي يمثله الشيخ أحمد ياسين، والتنظيم - حديث الظهور- الذي يقوده د. فتحي الشقاقي.
ولكننا تغلبنا على ذلك فيما بعد، حيث جمعتنا مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) مقاربات إيجابية، تكللت عام 1994 بذلك اللقاء المهم في واشنطن، والذي جمع عدداً من قيادات التيار الإسلامي الفلسطيني من جناحي الشيخ أحمد ياسين والدكتور فتحي الشقاقي (رحمهما الله)، بهدف تخطي مناكفات بضع سنوات مضت، والعمل لإستعادة وحدة العاملين في الساحة الإسلامية من تنظيمي حركة حماس والجهاد الإسلامي، حيث كان لكل من د. رمضان شلَّح وكذلك د. موسى أبو مرزوق دور إيجابي في وضع اللبنات الأولى لما تمَّ بناءه فيما بعد في دمشق عام 2007، إذ تمكن الطرفان من تدشين خط تواصل ورأس جسر كان هو الأساس لما تمَّ لاحقاً من تعاون وتنسيق سياسي وميداني على قاعدة "وحدة الموقف والمصير"، والتي تجسدت في أحد أشكالها بـ"الغرفة العسكرية المشتركة"، وتبادل الرأي والمشورة في الكثير من المواقف السياسية والاستراتيجية المتعلقة بالسلطة الفلسطينية أو كيفية الرد على الاحتلال.
إلتزام المذهب السُنِّي وسياسة الحياد الإيجابي!!
برغم الانطباع السائد حول علاقة حركة الجهاد الإسلامي وارتباطها الوطيد بإيران، إلا أن د. رمضان حاول بذكاء الحفاظ على خط التوازن مع الجميع، حيث إن فلسطين هي قضية الأمة المركزية وتتطلب جهد الأمة الإسلامية، وعدم الدخول على خط الصراعات القائمة في المنطقة أو التورط بأي شكل من أشكال التحالفات والنزاعات المشتعلة فيها. لذلك، حافظ د. رمضان (رحمه الله) على أكثر من شعرة معاوية مع الكل العربي.. ففي ملف الأزمة السورية لم تختل توازنات البوصلة لديه، حيث التزم الصمت؛ لا مع ولا ضد، ولكن كان التحذير من مغبة ما يحدث، وأثره الكارثي على القضية الفلسطينية ومستقبل الأمة الإسلامية.. ولذلك، لم يخسر بموقفه هذا علاقته بالنظام أو الشارع السوري الذي تحرك ضده.
ومن الأشياء التي تُحسب له كذلك هي عدم السماح لأحد بالتشيع داخل الحركة، مؤكداً أن إيران دولة إسلامية نُكنُّ لها كل التقدير والاحترام، ونثمّن كل ما يقدمونه لشعبنا وقضيتنا من دعم مالي وعسكري ودبلوماسي، لكننا نحن في النهاية ضمن الفضاء السُنِّي، وما يجمعنا مع إيران هو الموقف من الاحتلال؛ باعتباره غدة سرطانية يتطلب التعامل معها بما يحفظ مكانة فلسطين ومقدساتها كأحد أهم موجودات الأمة الإسلامية وتاريخها الحضاري والإنساني. ومن هنا، كان تعامله مع حركة "الصابرين" ومؤسسها هشام سالم، والتي انتهت بوقف عملها في قطاع غزة وفصل قياداتها أو توقيف المتعاطفين معها في جركة الجهاد الإسلامي.
لقاءات في عواصم عربية وإسلامية..
بعد مغادرة د. رمضان شلح الأراضي الأمريكية متوجهاً للسودان ومنها إلى دمشق عقب اعتقال السلطات الأمريكية للدكتور موسى أبو مرزوق في يوليو 1995، حيث استشعر خطر البقاء على حياته، فكان قراره السريع بالمغادرة. لم تمض بضعة شهور، حتى قام الموساد الإسرائيلي باغتيال د. الشقاقي في مالطا بتاريخ 25 أكتوبر 1995، حيث كان في طريق عودته إلى سوريا بعد لقاء له مع القيادة الليبية.
لم يكن د. رمضان يخطط للبقاء في سوريا، حيث كان ينوي العودة إلى قطاع غزة بعد اللقاء بالقائد المؤسس والأمين العام د. فتحي الشقاقي، والتوافق معه على رؤية الحركة في التحرك والعمل من داخل الوطن المحتل.. وفجأة؛ كانت عملية الاغتيال التي قلبت الترتيبات رأساً على عقب. وحتى لا تترك الحركة منصب الأمين العام فارغاً، انتظاراً لإجراء مشاورات واسعة لاختيار خليفة له، عقد مجلس شورى الحركة في الخارج اجتماعات شورية للتوافق على من يخلف القائد والمؤسس والاستئناس برأي الداخل حول من تمَّ الإجماع عليه بأعلى الأصوات.. وبذلك تمَّ انتخاب د. رمضان لمنصب الأمين العام للحركة، خلفاً للشهيد القائد والمؤسس د. فتحي الشقاقي.
وبقدر حزننا على رحيل د. الشقاقي العزيز على قلوبنا، كان ارتياحنا لاختيار د. رمضان خلفاً له؛ لأن هناك الكثير من التوافق بينهما في سياق النهج والأثر، وقد تبددت مخاوف من كان يظن بأن غياب المرشد سيعقبه التخبط وغياب الرشد، كما يحدث أحياناً مع الكثير من الحركات الإسلامية.
في 28 يناير 2001، سافرت إلى بيروت لحضور المؤتمر التأسيسي لمؤسسة القدس الدولية، وكانت سعادتي غامرة برؤية د. رمضان بين الشخصيات التي دعمت الفكرة وناصرتها.. وفي لحظة أخذ بيدي، وقال لي: دعني أعرّفك على بعض الشخصيات وأقدمك لها. وكان يجلس قريباً منا الأخ طلال ناجي أحد قيادات الجبهة الشعبية- القيادة العامة، وآخرين من قيادات حزب الله اللبناني.
عدت إلى أمريكا بعد المؤتمر، لنلتقي بعد ذلك في شهر إبريل 2001 بالعاصمة الإيرانية طهران، كمشاركين في مؤتمر إسلامي حاشد لدعم القضية الفلسطينية، حيث ألقى د. رمضان في ذلك المؤتمر كلمة حركة الجهاد الإسلامي، وكان لنا دردشات على هامش ذلك المؤتمر، والذي شارك فيه كذلك وفدٌ رسميٌ من حركة حماس.
ذات يوم في القاهرة، وخلال نشوة الربيع العربي في عام 2011، جمعتني جلسة مع د. رمضان (رحمه الله)، وتذاكرنا الأيام الخوالي في أمريكا، حيث سألته إذا كان لديه أي توجهات لوضع أفكاره في كتاب تأنس به الأجيال القادمة، ويطرح فيه رؤيته للصراع مع الاحتلال والعلاقة مع الكل الفلسطيني، ويستعرض فيه ما أنجزته الحركة من أفكار مؤسسها د. فتحي الشقاقي (رحمه الله)، إلا أنه قال ربما لم يحن الوقت بعد، ولكن أدبيات الحركة متوفرة وعلاقاتنا تشهد تحسناً مع الجميع.
لا شك أن وجود شخص على رأس هرم الحركة يفرض عليه التزامات كثيرة، حيث إن الكلمات ربما تشكل قيداً عليه وتحرمه من الصراحة والوضوح؛ لاعتبارات تتعلق بحساسية الموقع وسرية المواقف ودبلوماسية لغة الخطاب... بالتأكيد، كان د. رمضان سيكتب الكثير لو كان ترجله عن قيادة الحركة في غير ظروف المرض الذي ألمَّ به وأقعده في غيبوبة طويلة، فالرجل في إطار ثقافته المعرفية يمتلك الكثير من ناصية الخطاب والأدب، ولديه من معالم الرؤية والفكر ما يمكن أن يشكل إضافة لما طرحه د. الشقاقي من كتابات ومواقف أخذت طريقها لتصبح على شكل موسوعة تتضمن كامل أعماله، وتغطي كافة جوانب شخصيته بأبعادها الفكرية والنضالية والإنسانية والثقافية، واتجاهات البوصلة التي رسمت خريطة حركته الجهادية ومسارها نحو القدس.
في الحقيقة، كانت خطابات د. رمضان وتصريحاته تأتي في سياق المناسبات الوطنية والدينية أو من خلال وقائع وأحداث فلسطينية وإسلامية بعينها، وكذلك في مهرجانات الذكرى السنوية لانطلاقة الحركة، كتلك التي طرحها بتاريخ 21 أكتوبر 2016، باسم (مبادرة النقاط العشر)، خلال مهرجان الإنطلاقة الـ29 للحركة، باعتبارها رؤية لجمع الشمل والخلاص الوطني، وقد لاقت قبولاً واسعاً لدى الجميع، باستثناء السلطة الفلسطينية التي تحفظت عليها، كونها تدعو إلى إعلان منظمة التحرير سحب الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، وأن يُعاد بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح هي الإطار الوطني الجامع، والنظر إلى المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني بأنها ما زالت مرحلة تحرر وطني!!
للحقيقة والتاريخ، كانت شهادة الشيخ يوسف القرضاوي في دعم هذه المبادرة، وحديثه بتقدير عالٍ عن د. رمضان شلح، هي وثيقة مهمة في صفحات حركة الجهاد الإسلامي وأمينها العام السابق (رحمه الله)، وهي تعكس ليس فقط تأييده للمبادرة، بل إن ما جاء فيها هو محل إجماع علماء المسلمين، فنراه يكتب قائلاً: أكتب إليك يا أخي مؤيداً ومسانداً ومعاضداً، لما وفقك الله تعالى إلى النطق به، في عالم قلّ فيه من يقول الحق، ولا يبالي بما تكون النتائج.. أنا يا أخي، ومعي سائر علماء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، نقف عن يمينك، وعن شمالك، ومن أمامك، ومن خلفك، ندافع عن فكرتك، ونحامي عن حماك، نحن وأبناؤنا وأحباؤنا". ويضيف: "يا أخي رمضان.. اصرخ في النائمين عسى أن يستيقظوا، وفي المتباطئين عسى أن يخجلوا، وفي القاعدين عسى أن يعملوا، وفي القوَّالين عسى أن يفعلوا، وفي اليائسين عسى أن يتوكلوا، وفي المتكاسلين عسى أن ينهضوا أو يرحلوا، وفي المتفرقين عسى أن يجتمعوا، وفي المختلفين عسى أن يتحدوا".
لن تذهب كلمات د. رمضان نفخاً في رماد، ولكن الكلمات كالبذور لا تُستنبت في الهواء، بل لها أرضية ووقت معلوم للتفتح والإزدهار.
وعليه؛ فإن رحيله سيحرك إخوانه في حركة الجهاد الإسلامي لبعث صفحات نضاله وما تركه من معالم وأثر، لاستكمال المسيرة الجهادية وبلوغ الغاية بدخول المسجد الأقصى فاتحين، وعودة فلسطين - كل فلسطين - محررة إلى أهلها الشرعيين.
وداعاً يا أبا عبد الله .. لقد كانت مواقفك وكلماتك تعكس روح الجهاد والمقاومة، وتلخص المعنى العظيم لكلمات الإمام الحسين بن علي (عليه السلام): هيهات منَّا الذلة.