دأب الشعب الفلسطيني على محاولة ربط أي حدث عالمي بالقضية الفلسطينية، خاصة أذا تعلق الأمر بحقوق الإنسان، فنحن كشعب يعيشتحت الاحتلال، عاش الظلم والقهر والبطش لعقود طويلة، وما زال يعيشه كل يوم، ننحاز بشكل فطري للمظلومين في أي مكان على الكرة الأرضية، فالضحايايلتقون روحيا حتى وإن اختلف الجلاد، فما بالكم إذا تشابه مع جلاديهم، بل تحالف معه وهو سبب وجوده وسيد نعمته.
أتحدث هنا عن حادثة مقتل الأمريكي الأسود خنقا تحت ركبة شريطي أمريكي أبيض في مدينة مينيابوليس في ولاية منيسوتا الأمريكية، والمظاهرات التي انطلقت في المدينة وانتشرت لتغطي كافة المدن الأمريكية، وتلك السرعة التي ربط بها المواطن الفلسطيني بين الحادثة وبين ما تقوم به شرطة الاحتلال الإسرائيلي وجيشه المسلح أمريكيا من قمع وقتل ضد أبناء شعبنا منذ احتلال فلسطين عام 1948 وحتى اللحظة.
رصد رسام الكاريكاتير الصديق محمد سباعنة نبض الشارع سريعا وقدم رسما يمثل الشرطي الأمريكي القاتل وإلى جانبه شرطي إسرائيلي يضغط بنفس الطريقة بركبته على عنق شاب فلسطيني، وهو مشهد حقيقي يتكرر بشكل مستمر في فلسطين المحتلة والولايات المتحدة (قائدة العالم الحر)، وأعيد مشاركة الرسم مئات المرات في مواقع التواصل الاجتماعي الأمريكي، حتى اتهمت منظمات صهيونية الرسام الفلسطيني بنشر الكراهية ومعاداة السامية.
من جهتها شاركت الناشطة الفلسطينية الأمريكية مريم الخطيب بكلمة في حشد جماهيري في مدينة مينيابولساحتشد للتنديد بمقتل جورج فلويد، قالت فيها أن ضباط شرطة من المدينة عادوا للتو من دورة تدريبة على القمع الجماهيري أجريت في الكيان الإسرائيلي، وأنها (أي مريم) استنشقت الغاز المسيل للدموع للمرة الأولى في حياتها في فلسطين، وعانت من منع التجول كذلك على يد قوات القمع الاسرائيلية، وأنهت كلمتها الموجهة لسود الولايات المتحدة بأن "نصالنا واحد ضد الظلم والاضطهاد، وعلينا أن نتوحد في وجه القتلة حتى نيل حقوقنا".
يعاني السود في الولايات المتحدة من اضطهاد وتمييز عنصري طويل الأمد، ليس من قبل النظام وأدواته فحسب، بل من أغلبيةتؤمن بتفوق الجنس الأبيض على غيره من الأجناس، والتمييز العنصري الذي ظهر واضحا وضوح الدم في عملية قتل جورج فلويد هو نتاج ثقافة مجتمعية سائدة يقوم بتغذيتها رأس المال الجشع الذي يتحكم وينتج هذه الثقافة، كما أن التمييز العنصري المتجذر في الثقافة الشعبية الأمريكية، يستهدف كذلك كل الفئات الاجتماعية الملونة، من لاتينوس وعرب وأسيويين وغيرهم، ولم يقتصر على السود الذين خرجوا من جور العبودية إلى ظلم التفرقة العنصرية.
الشرطي الأمريكي الذي يتصرف مع الرجل الأسود بحكم مسبق على أنه مجرم ويبني سلوكه على التنميط هو جزء من هذه الثقافة، بل هو أحد ضحاياها في نفس الوقت، فهي التي جردته من إنسانيته وحولته إلى رجل آلي مطيع،قبل أن يقوم هو بدوره في تجريد الضحية القتيل من حقه في الحياة.
ولذلك نجد في ثورة الغضب الجارية حاليا في أمريكا، في أغلبها ثورة سلمية قائمة على نبذ هذه الثقافة ومحاولة تغييرها، وعلى الرغم مما يشوب الحراك من بعض حالات الخروج عن القانون من خرق وحرق ونهب وتدمير للممتلكات، فذلك مفهوم من الناحية النفسية لعقلية الضحية، القائمة على الحقد الطبقي والاجتماعي والانتقام، لكن استمرار الحراك الشعبي الذي يشارك فيه كل أطياف المجتمع الامريكي كحراك سلمي يقوم على ضرورة التغيير، حيث بدى في يومه السابع يؤتي ثماره، خاصة في مشاهد مؤثرة تكررت في لوس انجلس ونيويورك وغيرها من المدن، إنه مشهد ركوع رجال الشرطة على ركبهم أمام المتظاهرين، مطالبين الجماهير بالعفو والغفران، ولسان حالهم يقول نحن منكم وإليكم، ولسنا أعداءكم، المدينة مدينتنا جميعا، فإذا حرقناها سنخسر جميعا، قال قائد شرطة نيويورك جاثيا على ركبتيه أمام المتظاهرين، وسط تصفيقهم عندما حضن سيدة سوداء أمامه.
نعم، نضالنا واحد، وهو نضال إنساني لا يعرف حدود دولية، فلا فرق بين أبيض ولا أسود ولا عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، وفي نفس الوقت، نقول لذلك الشرطي الأمريكي ولهذا الشرطي الإسرائيلي "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"
ولو شئنا أن نحاسب شرطة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمهم بحق الأبرياء من أبناء شعبنا، سنستطيع القول بكل ثقة، أنهم ارتكبوا "هولوكوست" لا يقل بشاعة عن ذلك الذي ارتكب بحقهم على يد المانيا النازية، لأن العدد ليس له معنى عندما يكون القتل ظلما وجورا حسب الشريعة السماوية، فقتل نفس بريئة تساوي قتل للبشرية جمعاء.
يبقى أن نقول أن الشرطي الأمريكي القاتل هو أمريكي، وأن الضحية كذلك هو مواطن أمريكي، وهما جزء من مجتمع واحد يحتاج إلى عملية تأهيل وتربية على المواطنة الصالحة والقائمة على المساواة بين جميع أفراده بغض النظر عن العرق ولون البشرة والدين والجنس وغيرها من فوارق طبيعية، تزيد أي مجتمع ثراء وجمالا، إذا ما تم احترامها، فالتنوع ضرورة إنسانية.
أما الشرطي الاسرائيلي، فلا يحتاج إلى عملية تأهيل وإعادة صياغة في المفاهيم والقيم الإنسانية حتى لا يقتل الفلسطيني بدم بارد، بل عليه مهمة واحدة فقط لا غير، وهي أن يخلع عن جلده صفة المحتل الغاصب، وينسحب من حياتنا مرة وإلى الأبد، وليحمل حقده معه، وليغسل يداه من دمنا، بل يمكنه أن يعود إلى موطنه في منهاتن وبروكلن، ويلتحق بزميله الشرطي الأمريكي، وكلنا دعاء أن يُشفي قلبه الأسود وحقده الظاهر والدفين، وفي النهاية، لن يكون الحكم على لون البشرة، بل على بياض القلوب أو سوادها.