الأزمة في العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية وكيفية معالجتها..

هل يصبح الخطر الوهمي حقيقة هذه المرة؟..بولي مردخاي ومايكل ميلستين

الخميس 28 مايو 2020 01:57 م / بتوقيت القدس +2GMT
هل يصبح الخطر الوهمي حقيقة هذه المرة؟..بولي مردخاي ومايكل ميلستين



القدس المحتلة / سما /

تسبّب التصريح الجديد الشديد اللهجة الذي أدلى به رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) والقاضي بإبطال التزامات السلطة بموجب الاتفاقات السياسية الموقعة مع إسرائيل، بما فيها التعاون الأمني، بإثارة قلق كبير في أوساط الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء. ويتمثل جوهر هذه المسألة بالتالي: هل سيكون مجرد تهديد آخر يضاف إلى التهديدات الكثيرة التي أُطلقت في خلال السنوات الماضية من دون أي نية فعلية لتنفيذها – أو هل سيصبح هذا "الخطر الوهمي" الأخير حقيقة؟

ويأتي هذا التهديد الجديد الذي أطلقه أبو مازن – والذي يُعتبر حقيقيًا أكثر من أي وقت مضى ويعكس وضعه الاستراتيجي العويص – بعد عقد من الهدوء النسبي في الضفة الغربية رغم الأزمات الثنائية الخطيرة المتعددة التي اندلعت: ثلاث حروب في غزة (2014-2008)، و"انتفاضة السكاكين" التي بدأت في أواخر عام 2015، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس في عام 2018، إضافةً إلى كشف الرئيس ترامب في كانون الثاني/ يناير الفائت عن خطته التي حملت اسم "صفقة القرن". ويركّز هذا التحليل على السلطة الفلسطينية والضفة الغربية، من دون التطرق إلى الوضع المختلف وإنما المقلق أيضًا لحركة "حماس" وغزة إذ سيعالَج الموضوع في إطار نقاش منفصل.

وفي الضفة الغربية، ساد هدوء نسبي منذ حوالي العقد ونتج عن مزيج من عدة عوامل رادعة، هي على الشكل التالي: 

العامل الاقتصادي – استقرار مستدام يعزى إلى سياسة إسرائيل الذكية والواسعة النطاق في المنطقة. وفي صلب هذه السياسة يبرز التحويل المنتظم لعائدات الضرائب والرسوم الجمركية التي تمثل 60 في المائة من موازنة السلطة الفلسطينية، ما يمكّنها من دفع رواتب القطاع العام المتنوعة؛ فضلًا عن إقدام إسرائيل على دعم أو تخفيف بعض القيود عن التجارة والتطور الصناعي في فلسطين وزيادة النشاط التجاري للعرب الإسرائيليين في الضفة الغربية.

العامل السياسي – التمسّك الاستراتيجي الراسخ لقيادة السلطة الفلسطينية بالمقاربة السياسية إزاء العلاقات مع إسرائيل والتجنب الجوهري للبديل المتمثل بـ “الكفاح المسلّح". وقد بقي ذلك مطبقًا حتى عندما لم تُحرز المقاربة السياسية أي تقدّم إذ جُمّدت العملية لمدة طويلة بين الطرفين.

العامل المدني – الحفاظ على نسيج مستقر للحياة اليومية لمعظم سكان الضفة الغربية. وقد أصبحوا يعتبرون هذا الأمر بمثابة حق مكتسب نادر وقيّم بالمقارنة مع الوضع في سائر المنطقة – بما فيها غزة – في هذه الأيام، ما يعزز إدراكهم للثمن الباهظ الذي سيدفعونه في حال اندلاع "كفاح مسلح".

المواقف الشعبية – ساهمت ذكريات الشعب الفلسطيني المؤلمة عن آثار الانتفاضة الثانية حتى الآن بمنع انتشار أي أعمال عنف. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الوعي لا يؤثّر بالقدر نفسه في نفوس الجيل الأصغر سنًا الذي ولد بعد عام 2000 والذي لا يتشاطر مع جيل أهله درجة العدول الجماعي نفسها.

التنسيق والتواصل مع إسرائيل – التنسيق الوطيد والمتواصل بين إسرائيل والجهاز الأمني التابع لـ السلطة الفلسطينية والذي اعتبره أبو مازن مكونًا جوهريًا ووجوديًا للسلطة، والذي وصفه سابقًا بـ “المقدس" حتى. ويترافق ذلك مع تدابير مكافحة الإرهاب الفعالة والمستمرة التي تعتمدها إسرائيل. علاوةً على ذلك، هناك تنسيق اقتصادي مدني واسع النطاق يشمل جوانب الحياة كافة في الضفة الغربية استنادًا إلى "اتفاقية باريس" الموقعة في عام 1994.

الساحة الدولية – أبدت الجهات الفاعلة الدولية لسنوات متعددة اهتمامًا كبيرًا بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولطالما قدّمت مساعدات كبيرة لـ السلطة الفلسطينية. لكن يبدو الآن أن اندلاع أزمات سياسية واقتصادية خطيرة في أنحاء العالم في خلال السنوات القليلة الماضية، إلى جانب تداعيات أزمة فيروس كورونا السائدة حاليًا وخطة ترامب للسلام، كلها عوامل تساهم بشكل متزايد في تراجع الاهتمام الدولي وتدخله بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

الساحة العربية – كان هؤلاء اللاعبون يولون اهتمامًا كبيرًا ونافذًا بالدولة الفلسطينية وقد زوّدوها بمساعدة اقتصادية ودعم سياسي كبيريْن. لكن في خضم الاضطرابات التي تشهدها هذه الحقبة من الزمن، تركّز الدول العربية على مشاكلها الداخلية وعلى صراعات أخرى في المنطقة – لا سيما صراع معظم العالم السنّي مع إيران. لذا حدّت من تدخلها بالقضية الفلسطينية. ويحدث هذا أيضًا بالتزامن مع تجميد كبير لعملية السلام وغضب هذه الدول إزاء حالات الفساد المكتشفة في النظام الفلسطيني.

وفي خلال الأشهر القليلة الماضية، امتصت مكونات الاستقرار الاستراتيجي الأساسية هذه - التي تعرضت للضعف خلال السنوات القليلة الماضية -  صدمات هائلة. وتُعتبر القيود الاقتصادية الأكثر تأثيرًا بعدما كان الاقتصاد حجر الأساس في النظام القائم في الضفة الغربية. فقد تسببت أزمة كورونا بالتراجع الاقتصادي الأكثر حدة في فلسطين (ولا سيما في الضفة الغربية) في ما يقرب من عقدين من الزمن.

وتتجلى هذه الأزمة من خلال عدد من الظواهر المقلقة:

بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، توقفت حوالي 100 ألف منشأة بشكل شبه كامل عن العمل من أصل 142 ألف منشأة عاملة في الأراضي الفلسطينية من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ما تسبّب بتفاقم مشكلة البطالة في أوساط الشباب بشكل خاص. وفي الضفة الغربية، تضاعف حاليًا معدل مستوى البطالة وارتفع من 17 إلى 35 في المائة؛ كما سجل زيادة ملحوظة في غزة، ليرتفع من نسبة 45 في المائة العالية أساسًا إلى نسبة أسوأ حتى بلغت 52 في المائة.

هذه الإحصائيات تعني أنه من أصل نحو مليون فلسطيني ضمن القوى العاملة، انضم الآن نحو 300 ألف إلى العاطلين عن العمل: 200 ألف من القطاع الخاص الفلسطيني و100 ألف كانوا يعملون في إسرائيل.

 وحتمًا تسبب هذا الأمر بازدياد رقعة الفقر؛ فمنذ بداية أزمة فيروس كورونا ليس إلا، باتت 120 ألف عائلة إضافية تعيش دون خط الفقر الرسمي. وما يزيد الوضع سوءًا هو أن المؤسسات الإنسانية معرّضة للخطر بدورها – ويعزى ذلك جزئيًا إلى الضغوط الإسرائيلية على المصارف الفلسطينية لإغلاق الحسابات التي تحوّل الأموال إلى السجناء الإرهابيين الفلسطينيين وعائلاتهم. 

هذا ويتزامن التراجع الاقتصادي مع قيود مدمرة سياسية وأخرى تتعلق بعملية السلام، التي كما ذُكر سابقًا كانت تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من التزام السلطة الفلسطينية بالتقيد باتفاقاتها المبرمة مع إسرائيل. وفي هذا الإطار، يبرز حاليًا قلق السلطة الكبير حيال خطط الضمّ الإسرائيلية الجديدة في الضفة الغربية والتي من شأنها تغيير الوقائع على الأرض وفرض أمر واقع جديد في هذه المنطقة. وسيكون ذلك بمثابة محاولة لاستغلال انشغال العالم حاليًا بفيروس كورونا، إلى جانب العلاقات الوطيدة جدًا بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية الحالية.

في هذا السياق، قد يبرز مزيج مدمّر للاستياء الشعبي الفلسطيني الواسع النطاق بسبب تدهور ظروف حياتهم اليومية والأزمة السياسية الحادة التي أطلقت شرارتها القيادة الفلسطينية ردًا على "صفقة القرن" ومفهوم الضمّ المرافق لها. وفي العموم، لا يُظهر معظم الشعب الفلسطيني اهتمامًا كبيرًا بالأزمة السياسية؛ لكن في ظل هذه الظروف، من المرجح أن يشعر عدد كبير من الفلسطينيين بالرغبة في الانضمام إلى جولة من المواجهات.

ويمكن الآن أن يُضاف إلى تفاقم وضع القطاعين الاقتصادي والسياسي الشديد هذا تدهور المجال الأمني الذي يتجلى في التهديدات بإنهاء التنسيق مع إسرائيل. صحيح أن هذه المسألة لم تُتَرجم بعد على الصعيد العملي الواسع النطاق؛ إلا أنها قد تتحول واقعًا بشكل سريع.

 وفي هذا الإطار، من المرجح أن تتطور مجموعة من التهديدات: بدءًا بالاشتباكات الناشئة عن جهود الفلسطينيين الرامية إلى منع دخول الإسرائيليين إلى مناطق السلطة الفلسطينية، كما حصل بشكل روتيني لغاية الآن؛ مرورًا بتراجع التحفيز في مكونات الأمن الفلسطينية للتحرك ضد الخلايا الإرهابية التي تخطط لشنّ هجمات على إسرائيل؛ ووصولًا إلى تعزيز التطرف في أوساط بعض الكوادر الأمنية الفلسطينية (وحركة فتح)، حيث ستُفسَّر تصريحات القيادة الداعية إلى القتال باعتبارها ضوءًا أخضر لتنفيذ أعمال عنف ضد إسرائيل.

وتُدرك السلطة الفلسطينية أن هذه التطورات قد تؤدي إلى تصعيد خطير، حتى أنها قد تسفر عن انهيار السلطة بذاتها واعتمدت بالتالي موقفًا حذرًا للغاية في هذا الخصوص. لكن في الوضع الراهن، قد تكون الديناميكيات على الأرض أقوى من حسابات القيادة، إذ ينتج عنها تصعيد حتى لو لم ترغب فيه القيادة أو تخطط له. وتجلّت مؤشرات مبكرة على هذه الخطوة في الآونة الأخيرة في أوساط "التنظيم"، وهي الوحدات ا التابعة لـ “فتح" والعاملة على الأرض.

ومن بين العوامل الإضافية التي تساهم في جوّ الأزمة هذا هو عدم اليقين الكبير حيال مستقبل الساحة السياسية الفلسطينية، إلى جانب العلاقة المشحونة بين القيادة والشعب. وصحيح أن الأشهر القليلة الماضية شهدت تحسنًا في صورة السلطة الفلسطينية العامة بسبب نجاحها في إدارة أزمة فيروس كورونا، لكن في ظل تراجع حدة هذه الأزمة، تعاود الانتقادات الموجَّهة لـ السلطة الفلسطينية بالظهور، ولا سيما في ما يتعلّق بالشكاوى ضد الفساد والقيود المفروضة على حرية التعبير والفشل في المضي قدمًا في المصالحة الفلسطينية الداخلية (بما في ذلك مع حماس وغزة).

وتُضاف إلى كل ذلك الأسئلة المتواصلة والمتعلقة بـ “حقبة ما بعد" أبو مازن التي لا يزال عدم اليقين يكتنفها وتثير المخاوف بشأن المستقبل في أوساط الكثير من الفلسطينيين. وفي خلال الأشهر القليلة الماضية، زادت توترات جديدة بين قادة السلطة الفلسطينية ورئيس الوزراء محمد أشتية من تفاقم هذه المسألة، وهي توترات أتت للمفارقة ردًا على الكثير من التصريحات عبر وسائل الإعلام بأن استجابته لأزمة كورونا ساعدت في تعزيز موقفه الداخلي.  

ويعني تراصف كل تلك الاتجاهات المذكورة أعلاه تقهقر كامل شبكة القيود التي حالت لغاية الآن دون تصعيد واسع النطاق في البيئة الفلسطينية. ونواجه اليوم واقعًا أكثر خطورة مما كان عليه الماضي قد يؤدي إلى تصعيد أشمل سيجد الطرفان صعوبة في السيطرة عليه، وقد يتطوّر على الأرجح ليتخطى خططهما أو رغبتهما أو حتى ليتضارب بشكل مباشرة معها. بعبارات أخرى، لا شكّ هذه المرة أن الخطر حقيقي – سواء بسبب تنفيذ تهديدات السلطة الفلسطينية كليًا أو جزئيًا، أو بسبب ديناميكية التصعيد غير المقصود التي قد تنبثق عن الوضع الراهن في الساحة الفلسطينية. 

مع ذلك، وبغض النظر عن المسار السياسي الذي قد يختاره أي طرف – شرط ألا تطبق إسرائيل فعليًا تدابير الضمّ في الضفة الغربية – من المرجح أن تبقى إسرائيل قادرة على الحفاظ على درجة من الهدوء في المنطقة وعلى التمييز بين الأزمات السياسية الحادة والسلوك في الشارع الفلسطيني.

أما في المجال الاقتصادي، فيتطلب الأمر اتخاذ عدة خطوات فورية:

1.    ضمان الدعم المالي المنتظم لـ السلطة الفلسطينية (بخاصةٍ أموال المقاصة) حتى لو كان الأمر سيصبح أصعب من ذي قبل بسبب الأزمة السياسية الخطيرة في العلاقات؛

2.    النظر في إرجاء فرض أي عقوبات في هذا المجال، بغض النظر عن مبرراتها أو شرعيتها (على غرار حجز أموال "الإرهابيين")، من خلال إيجاد حل قانوني لهذه المسألة؛ 

3.    عودة العمال الفلسطينيين السريعة إلى إسرائيل؛

4.    التشجيع على حشد المساعدة الخارجية لـ السلطة الفلسطينية.

وناهيك عن المجال الاقتصادي، نوصي بضرورة اتخاذ إسرائيل خطوات إضافية من أجل الحفاظ على الاستقرار في الساحة الفلسطينية:

1.    الحفاظ بأكبر قدر ممكن على قنوات التنسيق في كافة المجالات، ولا سيما الأمن، والحوار على الصعيد السياسي (حتى لو حصل ذلك سرًا)؛

2.    تزويد الشعب الفلسطيني بمؤشرات عامة على نية إسرائيل بالحفاظ على النسيج المستقر للحياة اليومية في الضفة الغربية؛

3.    التنسيق الوثيق مع الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية، وبخاصةٍ مصر والأردن ودول الخليج العربي؛ 

4.    دراسة السبل الممكنة لتعزيز التقارب بين الإدارة الأمريكية والسلطة الفلسطينية. فالطلاق الحالي يطرح تهديدًا للفلسطينيين أيضًا لا سيما من خلال إضعاف أدوات النفوذ والضغوط المحتملة على رام الله.

هذا ومن شأن تطبيق التوصيات أعلاه أن يُكسب إسرائيل على الأرجح بضعة أشهر من الاستقرار المؤقت في الضفة الغربية لا سيّما في ما يتعلّق بالرأي العام الفلسطيني. ومع ذلك، ستتراجع مع مرور الوقت فعالية مساعي إرساء الاستقرار هذه – وستخسر على الأرجح تأثيرها في حال تطبيق تدابير الضمّ فعليًا في أي من المناطق هناك. وفي تلك الحالة، من المرجح أن تصبح الحسابات والخصائص السلوكية للقيادة الفلسطينية – ولا سيّما تلك الخاصة بالشارع الفلسطيني – أكثر تطرفًا لدرجة أنه سيصعب معها تهدئة المنطقة بواسطة التدابير المدنية التقليدية فحسب.

مايكل ميلستين هو رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه دايان للأبحاث الشرق الأوسطية والأفريقية.