هل ستفرض تل أبيب الإقامة الجبرية على السلطة الفلسطينية؟

الأحد 24 مايو 2020 09:00 م / بتوقيت القدس +2GMT
هل ستفرض تل أبيب الإقامة الجبرية على السلطة الفلسطينية؟



بقلم : الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر

يثير الوضع الفلسطيني، داخليا وخارجيا، القلق، بشأن مصير شعبنا الذي يذوق مرارة القمع والحصار في الداخل، والشتات وتداعي آمال العودة لأرض الوطن في الخارج.

سوف أكون صريحا في عرض الحقيقة للقارئ، وأنا أخاطب هنا أبناء شعبي الفلسطيني، والأخوة المسؤولين في البلدان العربية، خاصة من يعملون في مجال السياسة الخارجية، كما أتوجه كذلك لجامعة الدول العربية، محاولا قدر الإمكان نقل حقيقة الوضع الفلسطيني حسب معلوماتي وتصوراتي عن المخاطر التي تهدد فلسطين وشعبها في المستقبل المنظور.
من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعت نصب أعينها هدف المضي قدما في تطبيق بنود صفقة القرن على أرض الواقع خلال شهر، لارتباط ذلك بموعد الانتخابات الأمريكية القادمة، بينما تنوي إدارة ترامب الاستناد إلى إنجاز بحجم تحقيق تقدم في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المحتدم منذ عقود، لصالح الحملة الانتخابية لترشح الرئيس ترامب لفترة رئاسية ثانية.
لهذا يصر المشرفون على الحملة على موافقة الفلسطينيين، وتأييد بعض الجهات والدول الأخرى (على رأسها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا ومصر والأردن ودول الخليج) لصفقة القرن، دون خيارات أخرى، بوصفها الطريق الوحيد لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي يؤمّن للفلسطينيين قيام دولتهم المستقلة في قطاع غزة وجزء من الضفة الغربية مع وادي نهر الأردن. وإذا لم يذعن الطرف الفلسطيني إلى ذلك "العرض السخي" خلال شهر ونصف من الآن، فسوف تعلن الحكومة الإسرائيلية الجديدة قرار ضمّ الضفة الغربية إلى أراضيها بنفس الطريقة التي ضمّت بها الجولان السورية.

كذلك قامت واشنطن خلال السنة الأخيرة بجهود جديّة تمهّد للشروع في تنفيذ صفقة القرن، فقطعت المساعدات المادية عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وأجرت اتصالات مع بعض الدول العربية، بهدف الحصول على تأكيدات بعدم تشكيل جبهة تضامن عربية لمواجهة صفقة القرن، ولقيت تلك الاتصالات، مع الأسف، تجاوبا عربيا. كما استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية أساليب استخباراتية خبيثة، عبر قنوات إقليمية ودولية مختلفة، لتعزيز الانشقاق الفلسطيني، وخلق ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة في الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان والأردن وسوريا ومصر، مستغلّة ما يجري بالتزامن من حروب وأوضاع صعبة في سوريا وليبيا واليمن وعدم الاستقرار في العراق والخلافات الخارجية، والوضع الصعب الذي تعاني منه جامعة الدول العربية نتيجة العلاقات غير الطبيعية بين الدول العربية، بالإضافة إلى الكارثة الإنسانية المرتبطة بجائحة كورونا، والغياب التام لدور منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده. أضف إلى ذلك عدم الاستقرار في العلاقات الدولية، نتيجة سياسة تصعيد التوتر، التي تنتهجها إدارة ترامب، والتي تبدو جليّة في انسحابها تباعا من الاتفاقيات والمعاهدات، وأهمها الاتفاق النووي الإيراني، ثم الانسحاب التدريجي من اتفاقية الحد وتخفيض الأسلحة الاستراتيجية الصاروخية الدفاعية والهجومية، وإعلانها الانسحاب من معاهدة الأجواء المفتوحة (22 مايو)، الأمر الذي يخلق وضعا دوليا جديدا بتوازنات جديدة للقوى الإقليمية والدولية، ويخلق تحديات لم تكن موجودة من قبل، حتى طيلة فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية أعقاب الحرب العالمية الثانية.
هذا هو واقع الظروف الدولية والعربية، وهذا هو حال الوضع الفلسطيني، بينما ظلت القيادة الفلسطينية تراهن على قدرتها في التحايل والتغلب على القيود التي فرضتها واشنطن عليها من خلال اتفاق أوسلو، الذي تم توقيعه بين الفلسطينيين والإسرائيليين بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، ودون أي ضمانات دولية. نعم، لقد فشلت القيادة الفلسطينية في هذه الخطوة التكتيكية، بل ووقعت في فخ نصب لها، وأصبحت اليوم مقيّدة بالتنسيق الأمني مع إسرائيل وواشنطن، وما أعقبه من تداعيات طالت حرية الحركة والنضال السياسي كما طالت لقمة العيش اليومية، بينما رفع سقف الحركة من جانب الإدارة الأمريكية الحالية والحكومة الإسرائيلية الجديدة، وأصبح من الممكن توقع أي شيء، ولن نستغرب إذا ما فرضت الإقامة الجبرية في المنازل على كل المسؤولين في السلطة الوطنية الفلسطينية.
إن إدارة البيت الأبيض الحالية بعيدة كل البعد عن الوعي السياسي العميق بتاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعربي الإسرائيلي، وصراعات المنطقة بشكل عام. إنها إدارة تضرب بعرض الحائط كل القوانين الدولية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وما سواها من اتفاقيات ومواثيق دولية، والتي تؤكد جميعا على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، إدارة لا ترى أي أفق لحل القضية الفلسطينية سوى في إطار اتفاق أوسلو، الذي يجب أن تكلله صفقة القرن، من وجهة نظرها.
لذلك تعتبر إدارة ترامب أنها وضعت السلطة الفلسطينية في خانة الصفر، حيث لا خيار لها سوى الموافقة على شروط صفقة القرن، كما تربط تجاوب الأطراف الأخرى مع الصفقة المشبوهة بالمساهمة في حل الأزمات الاقتصادية التي تهدد الأردن ومصر وبلدان أخرى، وتؤكد على أن التوصل لسلام فلسطيني إسرائيلي بهذه الطريقة، هو مفتاح الأمن والاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط، والذي يستطيع تحقيقه دونالد ترامب وحده، ولم يستطع أي رئيس أمريكي قبله تحقيقه.
تقوم هذه الإدارة الآن، وبالتوازي مع فرض إرادتها بشأن الصراع العربي الإسرائيلي، ومحاولات إنهاء القضية الفلسطينية من خلال صفقة القرن المزعومة، بمحاولات لخلق كيان مستقل للأكراد شمال شرقي سوريا على جزء من الأراضي العراقية، كدولة مستقلة.
سيصبح هذا الكيان، حال إنشائه، بؤرة توتر ومشكلة جديدة في الشرق الأوسط، ستصرف الأنظار عن حقوق الشعب الفلسطيني، وتخطف أنظار العالم العربي بأسره، وتعيد هيمنة واشنطن الكاملة من جديد على الشرق الأوسط، للتحكم التام بخيراته وثرواته الطبيعية وتجنيده كليا لحساب المشاريع الاستراتيجية الكبرى في التوسع العسكري للناتو، حيث تحاول الولايات المتحدة الأمريكية إعادة عقارب الساعة قسرا إلى الوراء، وفرض نظام الهيمنة والأحادية القطبية في مواجهة نظام التعددية القطبية.

وبالعودة إلى الشأن الفلسطيني، فان المدهش والغريب، أن إدارة ترامب، ربما لرعونة موظفيها من الشباب الذي يفتقر إلى التجربة العملية في الحياة السياسية، لا تعي أن ما تطلبه من القيادة الفلسطينية عمليا هو الانتحار السياسي، وشطب التاريخ النضالي لجميع أعضاء هذه القيادة، ووضعهم على قائمة الخونة والعملاء، حال وافقوا على صفقة القرن. كذلك لا تدرك الإدارة الأمريكية الحالية أن ما تطلبه هو استسلام عربي إسلامي، وتنازل عن القدس الشريف، أولى القبلتين، والمدينة التي صلب على تلالها السيد المسيح.
لعل الخطوة الأهم لمواجهة هذه المؤامرة الخبيثة على القضية الفلسطينية هي استعادة الوحدة الفلسطينية، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وهو ما يجب أن يحدث الآن فورا، وليس هناك ما يمكن أن يمنع مباشرة الاتصالات الهاتفية والمرئية وغيرها بين جميع القيادات الفلسطينية في ظل الظروف الحالية من الحجر الصحي ومحدودية الحركة بسبب وباء كورونا، وهي خطوة ضرورية للغاية في الوقت الراهن، وأهم من كل الجهود التي تبذلها القيادة الفلسطينية حاليا باللجوء إلى الاتحاد الأوروبي، لتفعيل اللجنة الرباعية التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية. فاللجنة الرباعية لا تملك أي صفة هيكلية دولية أو نظام داخلي متفق عليه، بمعنى أنها غير ملزمة لأي من أطرافها، حتى أن إحدى دول الاتحاد الأوروبي، فرنسا، لم تحدد موقفا واضحا من القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من محاولاتها لتفعيل الدور الأوروبي في مساعي القضية الفلسطينية، إلا أنها كدولة لا تملك موقفا مبدئيا وواضحا بخصوص حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وكيفية إقامتها، وحدودها. وإذا كانت فرنسا تريد فعليا مساعدة القضية الفلسطينية، فلتعلن موقفها صراحة من قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مثلما تفعل روسيا والصين مثلا. فكل من يبدي استعدادا للوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية في ظل هذه الظروف، دون أن يكون موقفه واضحا، إنما يهدف للحصول على تنازلات أكثر من الفلسطينيين، لاستخدامها في نسف قرارات هيئة الأمم المتحدة ذات الصلة بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وإعادة النظر فيها، بل وتعديلها من قبل الأمم المتحدة لخدمة مشروع صفقة القرن، وإعطائه صبغة الشرعية الدولية.
إن شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة مقبل على أزمات سوف يكون من بينها الجوع والعطش بعد الفقر وانقطاع الكهرباء، واختفاء المرافق الحيوية والخدمات الأساسية لتوفير أبسط متطلبات الحياة الإنسانية، لذلك فإن رهاننا الأساسي لابد وأن ينصب على استعادة الوحدة الوطنية، التي يصعب من دونها مواجهة هذا التحدي. واليوم، لا بديل لنا، في التصدي لصفقة القرن المزعومة، عن العودة إلى الأرضية التي انطلق منها النضال الفلسطيني، والتي يعتمد على أساسها نضال حركات التحرر في العالم. والشعب الفلسطيني مدعوم بقرارات هيئة الأمم المتحدة وقيادته الشرعية ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية معترف بها دوليا، وتحظى بتأييد غالبية دولية ساحقة، ولا تستطيع أي قوة في العالم انتزاع هذه الشرعية منها، إلا أن المنظمات الدولية والدول الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني ونضاله أصبحت، مع الأسف، في موقف ضعيف اليوم، بينما تعجز عن لعب دور فعال في تأييد نضالنا بشكل فعال، دون الوحدة الوطنية الفلسطينية.
لقد بلغت الوقاحة منتهاها، حين تسمح تل أبيب لنفسها برفض أي جهود يبذلها أصدقاء الشعب الفلسطيني للتفاوض من أجل السلام العادل والشامل، بذريعة غياب قيادة تمثل كل الفلسطينيين، وكأنهم بذلك قد قضوا على منظمة التحرير الفلسطينية، وبذلك ألغيت، بالنسبة لهم، كل الاتفاقيات والجهود الدولية التي تثبت حق الشعب الفلسطيني في أرضه.
لنرى إذا كيف تتصرف قيادات التنظيمات الفلسطينية، التي يفصلها شهر واحد عن اتخاذ خطوات وقرارات هامة في مواجهة هذه المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية.