أمجد إسماعيل الآغا
إنطلاقاً من المُحددات التي أوردها عالم رائد الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون، فيما يتعلق بصعود وهبوط الدول والإمبراطوريات، وهي ذات المحددات التي أعاد صياغتها عالم التاريخ البريطاني بول كنيدي، والتي تؤكد أنه إذا تورطت الدول والإمبراطوريات في سياسة إنفاق باهظة عسكرية واقتصادية لإدارة أزمات خارجية، وإذا تفاقم تدخلها ودورها الخارجي، بما يفوق قدراتها على تمويل تلك العمليات التدخلية، فإن السقوط يكون حتمياً. من هنا من الضروري على رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان أن يُعيد حساباته الاستراتيجية، بناءً على المعاني التي حددها ابن خلدون وكنيدي. خاصة أن أردوغان لم يُدرك أن السياسة التركية انقلبت على تلك الحقائق، وبات الدور التركي مؤطراً بحلم أردوغان لتجديد الامبراطورية العثمانية، وفرض تركيا كـ قوة اقليمية ودولية تسعى في معادلاتها إلى الهيمنة المطلقة، حيث أن الترجمة الحقيقة لسياسات أردوغان، جاءت عبر صدامات سياسية وعسكرية مع قوى إقليمية ودولية، وازدياد التورط التركي في الساحتين السورية والليبية، وقبل ذلك الأيادي التركية الواضحة في دعم الاخوان المسلمين والتماهي مع مشروعهم في الشرق الأوسط، بُغية إحياء “دولة الخلافة الإسلامية”، فما بين مشروع العثمانية الجديدة، وتبني مشروع الاخوان المسلمين لفرض العثمانية الجديدة، كانت النتيجة أثمان باهظة ورطت أردوغان في صراعات اقليمية، فضلاً عن الشرخ الذي أصاب الداخل التركي، وتحديدياً في جُزئية خسارة ولاء المواطن التركي لرأس القيادة التركية.
في العلاقات الدولية، فإن الأزمات تكون أساساً مع الغير، سواء دول أو منظمات ارهابية، أما أن تواجه الدولة ذاتها أزمة بمواصفات دولية، فهذا من الصعب تفسيره أو وضعه في إي إطار سياسي أو عسكري، وهذا تحديداً ما تواجهه تركيا؛ بهذا المعنى وعطفاً على دروس التاريخ التي تؤكد على رفض الحرب في جبهتين، يظن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بإستطاعته إدارة الحروب والأزمات في أكثر من مكان، وهو بذلك يُخالف المنطق المُعتمد على تجارب تاريخية، ومن المدهش أن تركيا متورطة فعلاً في حروب أربع، واحدة في الداخل التركي مع الكرد، وثانية في العراق مع الكرد أيضاً، وثالثة في الشمال السوري والتي خلقت لنفسها مصيدة فيه، ورابعة في ليبيا.
قد يذهب البعض إلى اعتبار أن حروب تركيا في محيطها الاقليمي، هي حروب مشروعة انطلاقا من تأمين عمق استراتيجي أمن، تضمن به حماية حدودها في حال مواجهتها أي تهديدات، وهذا قد يكون مفهوماً لدى الكثيرين، لكن في حقيقة الأمر لا أسباب موجبة حقيقية لحروب أردوغان في محيطه، فالحلم الذي يراود أردوغان ينطلق من أطر إعادة امجاد الامبراطورية العثمانية، وبصرف النظر عن التهديدات المحيطة بتركيا، وما يمكن تفهمه أو الجدال فيه، لكن أن تُحلق أطماع أروغان 2000 كيلومتر لكي تصل إلى ليبيا، أو الشمال الغربي لليبيا، وتوقع مع حكومة الوفاق في طرابلس الليبية اتفاقاً بحرياً يرسم حدوداً بحرية لما هو غير موجود، حيث لا يوجد شواطئ متقابلة؛ ومعه اتفاق أمني يتيح لتركيا نقل مساعدات عسكرية والتدخل المباشر على الأراضي الليبية. فهذا ما لا يُمكن قراءته، أو وضعه في أي إطار استراتيجي.
أردوغان يأخذ تركيا إلى مأزق حرب على أربع جبهات. لم يعد هناك مكان لنظرية أحمد داوود اوغلو “صفر صراع، أو صفر مشاكل”، والذي رسم ملامح نظريته في السياسة الخارجية التركية في كتابه العمق الاستراتيجي، وإنما بات التفضيل للصراع على كل الجبهات. وهذه المرة، فإن الجبهة بعيدة، ووفقاً لمراقبين عدة فإن المطالب متعارضة بين الوفاق وأنقرة، فمن الناحية العسكرية البحتة فإن طرابلس لا يكون لها في الاتفاق الأمني فائدة ما لم يكن هناك قوات على الأرض، البعض قدّرها بلواء كامل بكل ما يلزمه من عدد وعتاد قد يصل إلى 3000 جندي، ومعه غطاء جوي وآخر بحري. من دون ذلك، فإن تحقيق تكافؤ وتوازن القوة مع الجيش الوطني الليبي لن يكون ممكناً، وسوف يظل ضغط هذا الأخير قائماً. كما أنه من الناحية العملية والعسكرية، فإن تركيا لا يوجد لديها لا من الإمكانات الجوية أو البحرية ما يجعلها تصل إلى ليبيا من دون أن يتزايد انكشافها سواء في البحر المتوسط أو في الأجواء المتوسطية التي لا يمكن للطيران التركي عبورها من دون عمليات تموين جوية مستمرة.
يظن رجب طيب أردوغان أن ليبيا ستكون طوق النجاة من المأزق الذى يعيشه، والأزمات المتلاحقة التي بدأت تضرب بلاده، الأمر الذى جعله يرسل قواته إلى هذا البلد بهدف كسب الشارع التركي الغاضب عليه بسبب سياسته الاقتصادية الفاشلة، إلا أن النتيجة كانت عكس كل توقعاته. إذ لم يتعلم أردوغان الدرس من مأزقه في مستنقع سوريا، وكان همه الأول إصلاح صورته السياسية المكسورة داخل بلاده، فسعى لفتح جبهة حرب جديدة في طرابلس الليبية، إلا أن الهزائم التي تلقتها الميليشيات الإرهابية المدعومة من أنقرة والقوات التركية في ليبيا جاءت بنتائج عكسية.
من الواضح أن كل ما سبق من معطيات، يُشكل بنية المأزق التركي الحالي، فـ أردوغان يُترجم سياساته كما لو أن تركيا قوة عظمى واسعة الامكانيات العسكرية والاقتصادية، وعليه فإن السؤال الجوهري الذي يغوص عميقاً في التصرفات التركية، ينطلق من بُعدين، لماذا تفعل القيادة التركية ما تفعل، وهو أنها تزداد تورطاً كل يوم وفي أكثر من جبهة؟، وفي المقابل لماذا لا تعمل على الخروج من أزمات وضعت نفسها فيها، وإنما تضيف أزمات جديدة؟.
للإجابة عن ذلك، يمكننا القول بأن هناك هدفين لهما طبيعة استراتيجية، الأول يتمحور حول سعي تركيا لمد نفوذها الاستراتيجي في عموم المنطقة، والوصول إلى ليبيا تمهيداً للتغول في افريقيا، والثاني بُعد اقتصادي إذ تسعى تركيا لتهيئة الأرضية المناسبة في اقليم شرق البحر المتوسط الخاص بالغاز والنفط بالشروط التركية وليس بالشروط التي يقررها قانون البحار، ما يعني أن تركيا تقوم بترسيم حدود بحرية مع دولة لا تجمعهم شواطئ، ولا حتى شواطئ مع قبرص التركية التي لا يعترف بها أحد سوى تركيا، ومن ثم فإن أنقرة تعتبرها عملياً جزءاً من الإقليم التركي. كلا الهدفين أكبر بكثير من القدرات التركية، وأكثر من ذلك فإنها تدفع المأزق التركي إلى التمدد والاتساع.
سورياً، فقد تفاعل النظام التركي مع الأزمة السورية وفق سلبية سياسية أنهت بموجبها كل إحترام متبقٍ لـ تركيا في العلاقات الدولية، فقد توقع القادة الأتراك في بداية الحرب على سوريا، تغيراً سريعاً في طبيعة النظام السياسي في سورية، كما توقعوا بأن الإخوان المسلمين سيقودن سورية إلى التحول نحو الديمقراطية وفق أبجديات السياسة التركية. في ذات الإطار، بدأت تركيا تنحو استخدام الوسائل العنيفة للإطاحة بنظام سياسي مجاور، مخالفة بذلك تقاليد وأعراف الكفاءة السياسية، الأمر الذي زاد من انخراطها مع الجماعات الإرهابية الجهادية، نتيجة لذلك أصبحت تركيا بوابة للجهاديين الأجانب المتجهين إلى سورية، وكان حزب العدالة والتنمية يتجاهل بذلك كل التحذيرات الداخلية والدولية حول الغوص في مستنقع الجماعات المتطرفة في سورية.
الخط السياسي العدواني لـ أردوغان في عموم المنطقة، تسبب في توجيه ضربة قوية للاقتصاد التركي، حيث دفع تدهور العلاقات الاستراتيجية في الداخل والمنطقة إلى تدهور الأزمة الاقتصادية، كما بات نظام أردوغان أكثر عُزلة مما يتوقعها أكثر أعدائه، فرغم أن رئيس تركيا يستخدم القبضة الأمنية لتطويع مواقف المعارضة التركية لصالحه، لكنه حتى الآن فاشل في إحكام قبضته، بل إن الشارع التركي بات أكثر قوة من المعارضة في إعلان رفضه لكل سياسات أردوغان الداخلية، وكذا الخارجية بما فيها التدخل التركي في سوريا وليبيا.
جُلّ ما سبق من معطيات تؤكد بأن نهاية أردوغان باتت قريبة، خاصة في الداخل التركي جراء سياساته التي أرهقت الاقتصاد التركي، يأتي ذلك في ظل المعلومات المتداولة بأن سياسيين كبار بدأوا في طرح البدائل المتاحة حال سقوط نظام أردوغان، كما أن المعارضة التركية التي يقودها أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، بدأت هي الأخرى في كشف الكثير من ملفات الفساد المرتبطة بـ أردوغان.
كاتب سوري