يصل هذا التعليم الى أقل من 40% من الطلبة الذين تتوفر لديهم إمكانية المتابعة مع معلميهم عبر التعلم الإلكتروني: وأقصد هنا التعلم الإلكتروني بمعناه الإجرائي القائم حالياً، وهو كل عملية تعلم وتعليم تنتج من تواصل الطالب والمعلم او الطالب مع أقرانه باستخدام التكنولوجيا، سواء كان من خلال عرض فيديو، او شرح درس، أو البحث عن معلومات، أو ورقة عمل، أو توجيهات إرشادية، أو تغذية راجعة، او غير ذلك. وهنا لابد من الإشارة الى الأمور الآتية:
• لم أتفاجأ من أداء المدرسة والمعلم في هذه الفترة العصيبة – من ينسى معلمينا أثناء الإغلاقات القسرية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ودورهم الرائع في استمرار التعليم والتعلم.
• اليوم وفي ظل هذه الجائحة فرض علينا ممارسة التمدرس خارج أسوار المدرسة أو «التعلم عن بعد»، لم نكن مهيئين لهذا (وربما لم نزل غير مهيئين من الناحية الفنية او من من الناحية الرسمية) كثر الحديث النظري عن التعليم عن بُعد ما له وما عليه، لم تنتظر المدارس ولا المعلم الفلسطيني وبدأ المشوار، نعم تحدث أمور كثيرة لا بأس من رصدها والكتابة فيها، لكن المعلم يبقى هو عنوان المرحلة:
• الثقة:
كسب معلمونا الثقة من مصادر عدة، منها: زادت ثقة الجميع بالمعلمين وبمديري المدارس، ونرى ذلك من خلال طلابهم الذين ينتظرون بشغف ما يصلهم من مدارسهم ومعلميهم- المدير والمعلم ما زالا محط احترام الطلبة وأهلهم وموطن ثقتهم. ورغم كثرة البرامج التي تملأ أجهزة التكنولوجيا وبرامجها، فان الطلبة والأهل من باب ثقتهم بمدارسهم ومديريهم ومعلميهم ينتظرون ما يردهم من المدارس والمعلمين.
من جانب آخر زادت ثقة المعلمين بأنفسهم والدليل على ذلك الكم الهائل من البرامج والفيديوهات التي يظهر فيها المعلمون وهم يقدمون دروساً وأنشطة مختلفة. كان دفتر التحضير وثيقة شخصية عند المعلم لا يطلع عليها أحد الا في نطاق التدقيق، ولكن الآن المعلم يفخر بدروسه التي يقدمها لطلابه على الملأ. وما أكثر المجموعات التي كونها المعلمون مع طلابهم تطوعاً ودون تكليف من أحد، ولم يترددوا في الاعلان عن ارقام هواتفهم ومواقعهم عبر أدوات التواصل الاجتماعي.
• الدور القيادي في عدة مجالات:
حين أعطيت الحرية، قادت المدارس عمليتي التعليم والتعلم، واكتشف المعلم زيف الاعتماد على الكتاب المدرسي كغاية وهدف، وأدرك خدعة المتابعة القائمة على ما يسمى «قطع المنهاج»، كان تنفيذ الكتاب بحرفيته واجباً مقدساً ممن يتابع عمل المعلم، سواءً من الجانب الرسمي أو من جانب الأهل. الآن المعلم يعبر عن هذه الحرية بما يوفره من الكم الهائل من المشاريع والأنشطة التي يقترحها المعلمون على طلبتهم، وكلها تحاول أن تسأل اسئلة تحث على التفكير والحل والمشاريع وتبتعد عن مهزلة «لكل سؤال جواب واحد ووحيد» الذي لا يؤدي الا لشيء واحد كلنا نمقته وهو «الحفظ» حتى غدا كأنه الخيار الأكثر شيوعاَ مع الأسف.
المعلم والمدير أناس أذكياء وسريعو التعلم، انطلق المدراء والمعلمون كالسهم في استخدام التكنولوجيا بمعظم اشكالها، وبسرعة تمكن المعلمون والمديرون من استخدام عديد البرامج المتوفرة من المصادر المفتوحة، وتوصلوا بأنفسهم لاستخدام ما تيسر لهم من أجهزة. وشعر البعض بسؤوليتهم تجاه زملائهم، فقاموا بالتطوع في نشر عديد البرامج التعليمية الرائعة لتدل المعلمين على طرق عمل المجموعات أو البرامج مثل (Zoom, TEAMS, Google Class, ….
• ليست كل المدارس متشابهة في مصادرها ونوعية معلميها ونوعية طلابها أو نوعية الأهل وامكاناتهم – والوحيدون القادرون على تقدير كل هذه الأمور هم مدير المدرسة ومعلموها.
• الطالب يستمع لما يصله من معلمه أكثر من اي أحد آخر مهما كان بارعاً في التواصل.
• فترة الطوارئ ليست عطلة مرحباً بها أو مرغوباً فيها لدى المعلمين والمعلمات: عبر العديد من المعلمين والمعلمات عن درجة اشتياقهم لطلابهم ومدارسهم – كيف لا وهو جو ألفوه وتعودوا عليه كل صباح، حتى أصبح جزءاً من شخصياتهم، وبالتأكيد هم يودون استمرار التواصل واحداً لواحد مع كل طالب- وعبرت إحدى الزميلات عن ذلك في رسالة نشرتها عبر وسائل التواصل بالقول «نحن نفتقد طلابنا ونشتاق اليهم ونريد ان نطمئنهم أننا ما زلنا نهتم بالتواصل معهم يومياً وليعرفوا أننا ما زلنا نحبهم ونرعاهم ونريد لهم الحياة والنجاح».
• زادت الثقة الذاتية والمجتمعية بالدور القيادي للمعلمين والمعلمات ومديري المدارس.
• بدأت تظهر بوادر تغيير في أنماط العلاقة بين الطالب والمعلم والمنهاج – وتبين للمعلمين وللطلبة وربما للأهل هشاشة الدعوة إلى ما يسمى «قطع المنهاج» وبرتابة وحرفية لما ورد في الكتاب المدرسي. لدينا فرصة لتعزيز التعلم، وابتكار طرق تدريس مختلفة، وتوقعات مختلفة من المعلم ومن الطالب على حد سواء، والوصول إلى نتائج جديدة ومختلفة ترتبط بنمو قدرات طلابنا وتطورها.
• ينوع المعلمون في طرق التدريس لمعرفتهم بأنها تختلف من صف لآخر ومن مبحث لآخر ومن عائلة لأخرى ( مثلا عائلة الوالد والوالدة فيها لا يتقنان اللغة الانجليزية – لا يستطيعان مساعدة أبنائهم فيها- حين نقول «يقرأ الوالدان مع أطفالهم قصة ما ... فما الذي نطلبه من ولي أمر مشغول أو لا يجيد القراءة ؟ وما الذي نتوقع حدوثه في ذلك البيت؟
• أبدع المعلم حين توفرت له فرصة الإبداع والابتكار: اعتمد المعلمون على أنفسهم – ولم ينتظروا أحداً- وقاموا بالإبداع في طرق إعداد الدروس وتوصيلها للطلاب ( ليس كل الطلاب- بل للمتاح منهم فقط) وهذا جهد كبير ودليل على إخلاص المعلمين وتفانيهم. يعرف المعلمون أن بيوتنا فقيرة جداً بالمكتبات الورقية والكتب – مع الأسف- تطوعت إحدى المعلمات كي تقرأ القصة بنفسها أو تجعل طفلاً يقرأ القصة، ثم ترفعها المعلمة على اليوتيوب أو على صفحتها على الفيسبوك ليقرأها أو يستمع اليها الطالب والأهل- هذا انجاز وإبداع تجلى في ظل الأزمات، ويجب الا يوجد ما يمنع حرية المعلم في الابداع أن تستمر بعد الأزمة، وعدم العودة إلى إلزام المعلمين بالتوريق والأعمال الكتابية التي لا تصلح الا لشيء واحد هو إظهار درجة الالتزام بما يريده المسؤول والمتابع للمعلم وللمدرسة.
• من خلال متابعتي لعديد المعلمين وصفحات المدارس ألمس تغيراً بدأ يتبلور في مجال التقويم التربوي: انتقل المعلمون من التقويم التقليدي – كل سؤال له جواب وحيد- الى إتقان إعطاء التغذية الراجعة ذات المعنى- وفي رأيي هذا التقويم هو الأكثر صدقاً لتقييم إنجاز الطالب مما كان يمارس على الطلبة من امتحانات واختبارات تتزاحم بين يومية وشهرية وفصلية .... وكانت في معظمها تختبر لا شيء سوى قدرة الطالب على استرجاع إجابات لقنها المعلم لطلابه سابقاً، أو نصوص ذُكرت في الكتاب واستطاع أن يستمر في حفظها لحين الامتحان، ثم تتبخر ويبقى ألم ومعاناة حفظِها عالقاً في ذهن الطالب.
• قدم الجانب الرسمي توجيهات عامة وبصورة جمعية وهذا أمر طبيعي لأن التوجيهات الجمعية هي أقصى ما يمكن أن يقدمه اي نظام تربوي، غياب التوجيهات الرسمية للمعلمين كأفراد وللمدارس بعينها هو أمر ليس بالسيئ، لأن المعلمين والمعلمات والمديرين أحالوه إلى فرصة مارسوا من خلالها الحرية التي سنحت لهم ليُظهروا إبداعاتهم، وأنهم أهل للمسؤولية دون الحاجة إلى التوجيهات الفنية المقرونة عادة بالمساءلة الرسمية.
من واجب الجميع العمل على تحقيق التعلم عن بعد وعدم الوقوف فقط عند التعلم الإلكتروني، ولنردد جميعاً التعليم الجيد حق لجميع الطلبة وهو مسؤولية الجميع.