أهدي هذا النص الى الاب عطالله حنا والاب انطوان ضو
فاجأنا الثلاثي عماد سارة وزير الإعلام السوري والمخرج باسل الخطيب والكاتب حسن م. يوسف بمسلسل “حارس القدس” الذي تبثه قناة الميادين يوميا الساعة التاسعة مساء بتوقيت القدس طيلة شهر رمضان المبارك. المفاجأة هي في انتاج عمل درامي عن سيرة مطران المقاومة هيلاريون كبوجي، يبتعد الى حد كبير عن الدعاية السمجة، والمديح الفظ، والأداء الفني السيء.
تمتد المفاجأة الى اختيار التوقيت المناسب في رمضان ناهيك عن الربط بين هذه الشخصية المسيحية المميزة والقطاع الأوسع من المسيحيين السوريين الذين وقفوا في خطوط الدفاع الامامية عن بلدهم طيلة سني الحرب الدولية التي اريد لها ان تفتت سوريا مجتمعا وارضا ودولة. وقد راهنت دول غربية على انشقاق المسيحيين السوريين عن بلدهم ودولتهم فخاب رهانها. ولربما انتوى الثلاثي الذي اخرج هذا العمل الى النور، الإشارة الى ما ورد، وبالتالي مفاجأة الرأي العام ب “حارس القدس”.
اختيار إسم المسلسل ليس عفويا. فاسم العائلة (كابوتشي) معناه الحارس بالسريانية والمطران قاتل من اجل القدس قبل احتلالها وبعده حتى السجن. ولعل القدس تحولت الى لقمة سائغة بعد ان فقدت حارسها بل حراسها الكثر فأهداها ترامب للصهاينة. وليس من باب الصدفة ايضا ان يظهر هذا المسلسل في هذا التوقيت بالذات.
يتحدث المسلسل كما اشرت عن سيرة حياة المطران الراحل هيلاريون كبوجي الذي يمكن القول دون تردد انه ينتمي الى ما يمكن تسميته بالكنيسة الكاثوليكية النضالية التي لعبت ادوارا مهمة في امريكا اللاتينية وفي الولايات المتحدة الامريكية وفي امكنة اخرى من العالم مقابل الكنيسة الكاثوليكية الرسمية التي وقفت الى جانب سادة العالم.
لم يكن المطران كبوجي معزولا ولم يكن فردا بل جزءا من ظاهرة مستقلة في العالم العربي على هامش الكنيسة او الكنائس المحافظة او بعض اجنحتها المتطرفة التي لا تبعد كثيرا عن المتطرفين الاصوليين لدى الطوائف المسلمة. كان كبوجي الوجه المناقض للاباتي شربل قسيس الرئيس العام السابق للرهبنة المارونية. ففي حين كان كبوجي يهرب سلاحا للفلسطينيين كان قسيس ـــ القيادي في الجبهة اللبنانية المسيحية اليمنية ـــــ ينقل قذائف مدفعية لمقاتلي القوات اللبنانية وتتعاون جبهته مع اسرائيل للقضاء على حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان ومن حسن الحظ ان التاريخ العربي القريب جدا قد انصف كبوجي.
وان جازت المقارنة مع الكنيسة الارثوذكسية فيمكننا ايضا ان نرى الوجهين. الاول ويمثله المطران عطالله حنا في القدس والوجه الثاني يمثله المطران الياس عودة في بيروت. وفي الكنيسة المارونية نرى الاب انطوان ضو ونرى غيره كثر، مع الاسف الشديد، ممن لعبوا ادوارا سيئة خلال الحرب الأهلية اللبنانية. وفي السياق نرى الكنيسة القبطية وقد منعت رعاياها من زيارة اسرائيل ودعتهم الى تجنب كل اشكال التطبيع معها. وفي هذا الموقف تحديدا، قد يكون موقفها بعيدا في معناه النضالي عن موقف بعض رجال الدين المسلمين المصريين الذين زاروا اسرائيل بدعوى زيارة القدس. إن موقف هذه الكنيسة من الاستعمار ليس جديدا فقد اصدرت في نهاية القرن الثامن عشر قرارا ب “الحرمان” على المعلم يعقوب الذي انشأ ميلشيا في القاهرة دفاعا عن حملة نابليون بونابرت في حين كان بعض مشايخ القاهرة يتعاون مع الغازي الفرنسي. اكرر القول ان مواقف كبوجي ليست فردية بل تنتظم في سياق انقسم فيه المسيحيون الى مؤيد او مناهض للغزوات الخارجية.
واذا عدنا الى سيرة الراحل كبوجي التي وثقها مبكرا الزميلان سركيس ابو زيد وطوني فرنسيس، نراها متمحورة حول رفض الاستعمار الاجنبي، الامر الذي يتناقض مع تيار كنسي خرج من الحرب العالمية الاولى بعد انهيار الدولة العثمانية، ليطالب بالاستقلال عن محيطه ، بدعوى رفض كل اشكال التمييز التي كانت سائدة في الفترة العثمانية.
كان التيار الكنسي الغالب حينذاك اقرب الى تثبيت نتائج الانهيار العثماني على الارض وقد وصل في الحال اللبنانية الى المطالبة بإنشاء كيان مسيحي مستقل. ونلاحظ في مرويات كمال الصليبي عن تلك الفترة ان المسيحيين انتفضوا ضد الملك فيصل الاول والدولة العربية التي اراد انشاءها في بلاد الشام وطالبوا باستقلال تام للبنان وكانوا يهتفون ” عيشة بذلة ما منحبا منتظاهر ما منتخبا .. يا منريد الاستقلال يا منرحل عا اوروبا “
وما زالت الكنيسة المارونية تقيم حتى اليوم قداسا سنويا لشكر فرنسا التي منحت البطريرك الماروني الياس الحويك دولة لبنان الكبير. كبوجي بحسب سيرته كان يمثل تيارا اقلويا في كنائس بلاد الشام اذ نراه في سوريا يكافح الاستعمار الفرنسي وفي القدس الاستعمار البريطاني الصهيوني وسنراه نصيرا للفلسطينيين يهرب السلاح لمقاومتهم ويعرض نفسه للسجن و لمشاكل داخل الكنيسة. وقد ركب غمار البحر في سفن الحرية في اخر سني حياته وهو الثمانيني من اجل كسر الحصار عن غزة.
تطرح سيرة المطران كبوشي الخاصة على اهميتها سؤالا كبيرا حول الاندماج الاسلامي المسيحي في المشرق العربي وشروطه واثاره السلبية والايجابية على حد سواء.
لا يتسع المقام للحديث التفصيلي في هذا الموضوع الواسع لذا سأوجز في خطوط عريضة ابرز النقاط المتصلة بهذا السؤال آملا الا ينطوي الايجاز على خلل يطيح بالقصد.
اولا : لم يكن مفاجئا موقف الكنائس المسيحية من انهيار الدولة العثمانية ومطالبتهم بالمساواة مع المسلمين في اوطان رسم الاستعمار الغربي حدودها ومستقبلها. فقد عاشوا طويلا في ظل الخلافة الاسلامية بشروط ذمية ـــــ كائنا ما كان حسنها ولطفها ــــــ تنطوي على تمييز يجعل المسيحي مواطنا من الدرجة الثانية ويحدد له اللباس والحيوانات التي يمكنه استخدامها وطريقة ركوبها وطرق بناء الكنائس وكيفية قرع اجراسها واحيانا يطلب منه ان يمشي لجهة الشمال اذا رأى مسلما يسير لجهة اليمين الخ… وكانت الكنائس تتعرض للحرق انتقاما والكهنة يتعرضون للسخرية والاهانة في الاماكن العامة.
منح تفكيك الدولة العثمانية املا للمسيحيين في مستقبل بلا تمييز. وكان من الطبيعي ان تتولى نخبتهم نشكر الافكار التي تؤسس لثقافة سياسية حديثة وان تضع الاسلام في سيرورة كتلك التي خضعت لها الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا بحيث يهمش كما همشت ويتولى الناس ادارة دولهم بعيدا عن الدين الذي حصر في الماورائيات. بيد ان وجود اسرائيل قد طرح على المسيحيين والمسلمين مشكلة مصيرية تتصل ببناء مستقبلهم مع او ضد الدولة الصهيونية. فكانت الاكثرية المسيحية مناهضة للصهاينة واقلية ارتضت التعاون معهم ضد الفلسطينيين. وكان المطران كبوجي في طليعة الرافضين لاي تعاون مع الكيان العبري بل مقاوما شرسا للاحتلال واغتصاب ارض فلسطين.
ثانيا : على الرغم من صعوبات التعايش بين المسيحين والمسلمين في سياق الخلافة الاسلامية فان الفترات المشرقة والمزدهرة في العالم العربي هي تلك التي عرفت اندماجا ناجحا للمسيحيين في محيطهم. وعندما نتحدث عن الاندماج الناجح فإننا نراه من خلال الموقف الموحد ضد الغزو الخارجي و العدالة في حدها الاقصى التي كان يعتمدها بعض الحكام العرب في تعاطيهم مع المسيحيين. كان من ثمرة هذا الاندماج الناجح ان ركب المسلمون العرب البحر بمراكب وتقنيات صنعها مسيحيون في بلاد الشام وقد وصلت مراكبهم الى اقاصي العالم. وكان من ثمارها بيت الحكمة في بغداد العباسية وفيه اجتمعت علوم العالم بفضل التراجمة السريان. وكان من ثمارها ايضا علوم الاندلس التي طبعت القرون الوسطى وبنيت عليها ومنها النهضة الاوروبية. لقد استخلص محي الدين ابن عربي اهمية الاندماج بين مختلفين اذ ركز على اهمية التعدد ودور التعدد في انتاج المعرفة بقوله ” كل معرفة لا تتنوع لا يعوَّل عليها”
ثالثا : ان كل تعايش واندماج بين متعددين ومتنوعين يطرح مشاكل تحتاج الى حلول. لقد ارتكب تيار مسيحي في لبنان خطأ فادحا عندما ظن ان حل مشكلة التعايش مع الفلسطينيين يتم عبر التحالف مع إسرائيل وارتفعت في صفوفه أصوات تنادي بتجميع مسيحيي الشرق والنطق باسمهم. من حسن الحظ ان غالبية المسيحيين اللبنانيين والعرب الاخرين لم تستجب لهذه الدعوة العدوانية بوضع اقلية مسيحية بمجابهة مع بحر من المسلمين. بالمقابل كان مصير المسيحيين العراقيين مأساويا عندما سيطرت داعش على مناطقهم. ان الجواب الانعزالي لمشكلة التعايش هو الوجه الاخر للجواب الداعشي ومن حسن الحظ ان حلا اخر اعتمدته سوريا وقد اجتاز اختبارا ناجحا في الحرب الدموية الأخيرة التي لم تتم فصولا بعد. ومن حسن الحظ ان المطران كبوجي يظهر في ” حارس القدس ” كأحد اهم رموزه.
رابعا : ان الحل الأفضل لمشاكل التعايش لربما يقوم على تقييم و تطوير أفكار اسلامية عرضها ابن رشد والملا صدرا وميشال عفلق وجورج حبش وانطون سعادة وجمال عبد الناصر والمقاومة الإسلامية ، وهي ترمي في مجملها الى تعيين المواجهة خارج العالم العربي وليس داخله. هي تدعو الى تضامن الناس ونقل الصراع من دواخلهم الى الخارج الظالم الذي يستتبعهم وينهبهم ويفرض عليهم شروط حياتهم ويرسم سقف مستقبلهم. ان الكثير من أفكار هؤلاء القادة قد شاخ وتجاوزه الزمن لكن النهج الذي اتبعوه مازال صالحا. هنا الوردة وهنا يجب ان ترقص بحسب المثال الصيني..
تحية ل”حارس القدس” مطران المقاومة هيلاريون كبوجي ولمن فاجأنا بمسلسله في هذا الشهر الفضيل. وكل عام وانتم بألف خير.
كاتب لبناني