( الحلقة الثانيــة )
** أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب
الرئيس الثاني للجمهورية المصطفوية و أول قائد أعلى لأول قوات مسلحة نظامية .
أبو حفص ، الفاروق ، عمر بن الخطاب ، أمه حنتمة بنت هشام المخزوميه ، و من عجائب الأمور أن خاله هو عمرو بن هشام المعروف بابي الحكم قبل الإسلام ، و بأبي جهل كما سماه المسلمون .
عند الحديث عن عمر رضي الله عنه ، لابد لنا أن نفهم أننا بصدد التحدث عن أسطورة ، و أسطورة هنا بمعنى الكلمة الدلالي و ليس اللغوي ، أي الخارق ، الطفرة ، المتفرد ، و بون شاسع بين الأسطورة و الخرافة ، فالثانية هذيان ممنطق إن جاز لي التعبير أو إن جازت منطقة التخريف ، و الخيال ، ولكن الأسطورة بالمعنى الدلالي هي لحقيقة ملموسة يصعب تفسيرها لخرقها محددات القبول العقلي و القدرة على الفهم .
و من المتعارف عليه أن أساطير الأمم هي بمثابة محفزات قومية ووطنية ( كل الأمم لها أساطيرها ومثلها العليا ، سواء أشخاصاً كانوا أو أحداثاً يعتبرونها نبراساً و منارة لهم يلجأون لها إذا حمي الوطيس ، كمرجعيات و عبر تزيد من ثقتهم بأنفسهم وأصولهم و قدرتهم على البقاء و النمو) .
و أسطورة عمر ، تتميز بأنها عابرة للقارات ، بحدودها الجغرافية بل و الثقافية و الزمنية فهي عالمية و ليست إقليمية ، و هذا ما دفع المؤرخين و الفلاسفة للتأمل في سيرته و سردها التابة عنها و الاستشهاد بمواقفه و حكمته حتى أصحاب الملل و المعتقدات المخالفة أقروا له بالعظمة و التميز، و لا أدل على ما نقول من موقف وجدناه في كثير من أدبيات مسيحيي مصر الأقباط حول عمر بن الخطاب و حبهم الشديد له ، بل و قولهم أنهم هم كانوا أول من أطلق عليه لقب " الفاروق " رغم ميلنا إلى حقيقة أنها كانت تسمية رسول الله عليه الصلاة و السلام له ، ولكنهم يقولون أنها لفظة على وزن ( فاعول ) و هي ليست من أوزان اللغة العربية ، و إنما هي أرامية و ينطقها الشرقيون ( باروق ) و ينطقها الغربيون ( فاروق ) و تعني المُخَـلِص ، و يقولون أنهم أطلقوا عليه هذا اللقب لأنه خلصهم من ظلم البيزنطيين المحتلين . و على أي حال فنحن بين يدي شخصية لا تتكرر ، أناخت بالمجد أمامها ، و جمعت ما إحتارت فيه عقول و دهشت منه أمم ، و ضربت الأمثال و علمت العالم الحكمة و العدالة و أصول الإدارة و ذكاء السياسة ، المبنية جميعاً على تقوى و إيمان وطهر و عفة يد و نفس و نزاهة لا شية فيها ، وهو ببساطة و عمق معاً ، خير من صّـدحَ و بَشَّــر بعد رسول الله و حمل رسالته إلى العالم ، بعنوان الإسلام و جوهرة الملخص بجملة موجزة إلا أنها تحتمل أن تكتب فيها الدراسات و تبنى بها الدول و المنظومات ، حيث عبر عن حقيقة دين الإسلام أنه في لبه وروحه و ألقه هو دين الأخلاق ، هو دين القيم .
شخصية عمر ، الفريدة ، بنيت على أسس مؤهله منذ بدايتها ، للقيام بمهمة تاريخية ، فمولده في أسرة ميسورة مادياً ، بغير برجزة ولا طبقية ، عالية القدر كريمة في قبيلة ذات شأن عظيمة ، في زمن تتصل فيه السماء بالأرض ، و ليبعث الله فيه نبياً رسولاً بكتاب مبين ، أمر فيه من الترتيب السماوي ، و القدرية ما يجب أن نتأمله بكثير من العناية و التأني ، بل و نشكر الله عليه لفضله فهذا الذي ولد عام 40 ق. هـ / 584م - وقتل عام 23 هـ / 644 م الملقب بـ "الفاروق" و كنيته "ابو حفص" ثاني الخلفاء الراشدين و اول من تسمى بامير المؤمنين وتغيير التسمية التي أطلقت على سابقه في قيادة الأمة و الدولة سيدنا الصديق رضوان الله عليه إنما جاءت بعد تفكير عميق ، و محاولة أولية لبناء النظام و هيكلة الحكم ، فلقب الخليفة بالمعنى العربي لا يساوي المفهوم الفارسي السياسي الإداري الحقيقي للمعنى ، حيث أن نظام الخلافة كان معروفاً لدى الفرس ، و في تعريفهم يقوم الخليفة بالعمل على حراسة الدين و المعتقد ، ولما تولى عمر بن الخطاب الحكم ، جاء التغيير ليس فقط لمجاجة التعبير وطوله بأن يسمى خليفة خليفة رسول الله ، أو الخليفة الثاني ، بل أيضاً لما وقر في نفس عمر على ما يبدو ، و في نفس من إستشارهم بأن الدولة لا تحكم بلقب فارغ ، و لقب خليفة في ذلك الزمان كان له مدلول أبعد من المدلول اللفظي ، كان له بعد وصفي لهيكلة نظام و مؤسسة ، فضلاً عن أن حراسة الدين ليست من مهام الحاكم ، و أن الدين هو الحارس و الحاكم هو المحروس ، و أن وظيفة الحاكم أن يخدم رعيته و يحافظ على الدولة ، و يكون أميراً وولياً عليهم فكان القرار بتغيير صفة الحاكم من خليفة إلى أمير المؤمنين ، و ربما من الحكمة أيضاً أن التغيير و التطور ، و عدم الإستكانة إلى موروث سواء أكان لقباً أو شكل نظام و هيكلة بناء مؤسسي ، هو من طبيعة و أساسيات فلسفة الحكم المستفاد من المدرسة المصطفوية ، و من مرتكزات الجمهورية المصطفوية ، ورغم أن عمر هو من أكابر اصحاب الرسول محمد وواحد من العشرة المبشرين بالجنة، إلا أنه يوماً لم يستكن و لم يرض أن يحكم بالشكل الثيوقراطي الديني ، ولا أن يروج لنفسه على أنه الشيخ الإمام أو الولي الصالح صاحب النبي ، بل في الحكم كان الرئيس العادل ، القوي الثابت على الحق ، القائد الأعلى للقوات المسلحة ، المدافع عن مصالح الدولة و الأمة ، و في المسجد و البيت هو العابد البكاء المتهجد الصائم القائم الساجد .
وهو اوّل من قرر أن يكون للعرب تقويماً و تأريخاً يعبر عن ثقافتهم و حضارتهم و يخدم حساباتهم بتقسيم الأيام و الأعوام فكان قرار العمل بالتقويم الهجري. و يوقف العمل بالنسئ ، و التقويم الميلادي و الفارسي و غيرهما من الحسابات ، و بهذا شكل دورة إقتصادية إجتماعية جديدة ، غيرت شكل المعاملات و معادلات الأمة نفسياً و ثقافياً و إجتماعياً و إقتصادياً لك أن تتخيل مدى التغيرات التي أحدثها هذا التقويم الجديد وبشكل جذري في حياة الناس و معاملاتهم .
و من قراراته التاريخية أيضاً ، تشكيل أول جيش نظامي للدولة ، و السماح للعرب المسيحيين النصارى بالإنضمام إليه و إسقاط ضريبة الجزية عنهم مما إعتبر أول قرار يراعي القومية العربية دون التصنيف على أساس الدين أو الملة ، وهو بداية تعريف الجمهورية المصطفوية بانها جمهورية عربية . و لم تكن الصحوة " القومية " هنا كما يحاول بعض أبالسة المؤرخين و المستشرقين ، والأعداء الظاهرين من شرحها و لي عنق حقيقتها بأنه ( عمر بن الخطاب ) كان باعثاً للقومية العربية على أسس عنصرية عصبية عرقية ، فهذا فيه مجافاة ليس فقط للحقيقة التاريخية بل للمنطق السليم و التفكير القويم بكل بساطة ..
وإلا لكان تفسير الآية الكريمة في المصحف الشريف ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الزمر (28) و الآية 2 من سورة يوسف (نَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، لكان معناها تفوق " العرق " و " الجنس " أو " العنصر " العربي على غيره من الأعراق و القوميات ، و هذا كلام مخالف للحق و الحقيقة معاً بل ومخالف للبيان و اللغة و المنطق لمن كان ملماً بأبسط قواعد اللغة و مفاهيم التعبير ، بل كان عمر بن الخطاب باغثاُ ، للثقافة القومية العربية ، و كما أسلفنا بأن جوهر الإسلام هو الأخلاق ، فالثقافة العربية و الأصول القومية العربية في أصولها و جذورها هي معين لا ينضب من العادات و المبادئ الأخلاقية و التي تحث على الكرم و الشجاعة و الأثرة و المحبة ، ولا ينكر إلا ضرير القلب ، و أعمى العقل أن هذه الثقافة القومية العربية تلتقي و تشرب و تسقي مع ثقافات أخرى محيطة ، أحتكت و تماهت أو تمازجت معها على مدى العصور ، بدليل تعدد الأديان و القبائل في الجزيرة العربية و أطراف الوطن العربي الكبير بين ثقافات و ملل ، من فارس إلى روما مرورا بأفريقيا و الأقباط و الأمازيغ و غيرهم ...كل هذه الثقافات كونت في محصلتها ثقافة موحدة جامعة هي الثقافة العربية ، و كل هذه القوميات إنصهرت في قومية واحدة هي القومية العربية ..
فليس مثل عمر ، الرجل الذي يمكن أن يقع في شرك العنصرية ، ولا مثله من أصحاب الأتفس السوية الغنية ، و البعيدة كل البعد عن الإحساس بالدونية من يصاب بمرض التعالي أو التفرقة بين الناس للون أو عرق أو دين ، فهو رجل يدرس تحركاته بكل تأنٍ و تمحيص ، و عل قصة إسلامه بعد ستة أعوام من بداية الدعوة ، و إسلام جل من حوله ، حتى أخته و زوجها ، و من ثم إصراره على قراءة آيات الله ، و فهمها و تحليلها قبل إعتناق الإسلام يدلل على أسلوب حياته و نمط تفكيره قبل إتخاذ قراره الثوري الجذري .
و قرارته السابقة لإسلامه ، و قرار إسلامه ، و من ثم تقدمه في صفوف الرجال حول الرسول ، إلى أن بلغ ما بلغه من شأن و رفعة و قرب من النبي عليه الصلاة و السلام لم يأت من فراغ ، بل لرجاحة بالغة و رجولة طاغية ، و ثقة و توازن و خصال و مبادرات أهّـلتــه و دفعتـه ليحتـل مكانة مقربة من كتـف رسول الله الشريفة ، و ليقف منافحاً مدافعاً ، بل مشاركاً مسخراً لنشر دعوة محمد ، و من ثم ليقف صلباً قوياً بعد وفاة الصديق ليكمل بناء الجمهورية المصطفوية ، لا تأخذه في الحق لومة لائم ، و لا يتردد في الدفاع عن الأمن القومي ، تماماً كما فعل في قضية إجلاء مسيحيي نجران ، و هم من العرب ، ولم توقفه أي نزعة قومية من إجلائهم ، و تعويضهم ، وقد قيل في هذا ما قيل ، و تَــأّوَّل المُـتأولون و دس المُـدلِّـسون ما ملأ الكتب و المجلدات ، بأنه كان إجــلاءً عنصرياً بسبب ديـن أهل نجران المسيحي ، و أنه إضطهاد لهم لأنهم مسيحيون .. و هم بهذا و الله قد جعلوا من أنفسهم أضحوكة ، و ساقوا من الحجج ما لا يمكن أن يعتبر إلا سخافة و هذيان السكارى .. وعلى العكس مما ذهبوا إليه ، فهو بهذا الفعل قد رسخ أحقيته بأنه الأمير الأسطورة و القائد الفذ الحكيم ، كيف لا و بنظرة بسيطة عاجلة على الحالة في الجزيرة العربية ، و أطرافها في ذلك التوقيت ، يمكننا أن نرى ما شابها من قلاقل و دس و تحالفات مناوئة و عمليات هدم و تخريب .. و لأزيدك ، دعني أذكرك بما يشبه واقع الحال في هذه الأيام التي نعيشها ، حيث التهديد و التدخل الخارجي في شأن اليمن ، و تأليب بعض الفرق الموالية للخارج بحكم إجتماع و إتفاق الملة و الدين ، وتحريكها لتهديد إستقرار الدولة مما أدى إلى تفسخها و إنقسامها و تحطم أحلام شبابها و تدمير أمنها القومي ، و هذا بالضبط ،و في نفس المكان ، ما كان يحاك لليمن و أهله في عصر الجمهورية المصطفوية برئاسة عمر بن الخطاب ، تدخل و تفرقة بين الناس ، و تفسيخ يبدأ من اليمن ، و ينخر في جسد الأمة و الدولة المصطفوية إلى أن يتم تدميرها و إحكام سيطرة الروم و الفرس و إعادتها إلى ما كانت عليه قبل الإسلام .. إلا أن فطنة الفاروق رضي الله عنه ، و على خلفية تدبيريه إستراتيجية للأمن القومي ، وبعد أن تفحل إعتداء القراصنة وكانوا من نصارى الحبشــة ، يقطعـون البحر الأحمر على التجارة و يؤثرون على الإقتصـاد و حركتـه في الجمهورية المصطفوية مستغلين إنشغال معظم سرايا جيش الملسمين على الجبهة البيزنطية شمالاً، و نظر عمر بن الخطاب إلى الخريطة أمامه ليرى هذه الحقيقة إضافة إلى ما تــوفر لديه من معلومات بأن فــارس ( إيران ) تتحضر للهجوم على المناطق المحاذية للخليح ، و أغلب قبائلها ايضا من العرب المسيحيين . و في الدخل هو و من بقي لديـه من كتــائب الجــيش و الأمـن يواجهـون حـروب الـردة ، وهنا كان لعمر ، كرئيس لدولة ، و قائد لأمه أن يحلل و يدرس أسباب هذا التشابك وكثــافة الهجــوم في ذات التــوقيت ، و يحاول الوصول إلى مسبباته و أطرافه و محركيــه من الخارج ، فأكتشف أن حركات التمرد و الردة لم تسلم من عبث و تأجيج أتباع الملل الأخرى و خاصة مسيحيي العرب ذوي الإتصال على أسس عقائدية مع الروم و البيزنطيين، فعمدوا إلى لعب دور ما نعرفه في السياسة الحديثة بالطابور الخامس ، تأليبا و تشكيكاً ، ناهيك أن كبار المرتدين ، و المتنبئين ، كانوا ينتمون إلى مناطق أكثرية سكانها من النصارى ، فكان قرار عمر بن الخطاب ، بإجلائهم ، ليس إلى أي مكان خارج نطاق الدولة ، بل في داخلها ، و بتعويض فاق ضعفي ما يملكون ، و بتوصيات مشددة بمعاملتهم بافضل ما يكون لكل ولاة الأمصار و الأقطار التي يمرون فيها وصولا إلى مناطق النزوح و إعادة التوطين و التموضع ، ومعروف أن نصارى نجران في اليمن فاق عددهم في ذلك الوقت الأربعين ألفاً ، بينما كان ضعف هذا العدد أو أكثر من اليهود ، ولكن عمر ترك اليهود و لم يجلهم ، لأنهم لم يشكلوا أي خطر على " الأمن القومي " و لم يكن لهم حلفاء خارجيين .. ولو نظر عمر للأمر على المستوى الديني و العقدي فقط ، وبحسب ما جاء في المصحف الشريف من محبة النصارى ، و أنهم أقرب للمسلمين من اليهود ، لتركهم و أجلى اليهود من نجران ،ولو كان عمر يجلي أصحاب الملل المخالفة تأسيسا على عنصرية أو تفرقة عرقية لأجلى اليهود و النصارى معاً ، ولكن الأمر لم يكن بهذه العاطفة الدينية ، الأمر كان مقاساً بالمفاهيم الجيوسياسية ، و الإستراتيجية الأمنية ، ووفقاً لمعايير الأمن القومي و الحفاظ على الدولة ، و لا ننسى اليمامة ( وهي في نجد بالمملكة العربية السعودية حاليا) . وهي بالضبط المنطقة الواقعة جنوب شرق الرياض بمحاذاة الخليج ، و فيها أنشأ أحد القساوسة المسيحيين ويدعى مسيلمة الكذاب كياناً يؤمن به حيــن إدعى النبــوة ، و شكل جيشــاً جــراراً من قبيلته و القبائل التي إنضمت إليه و غالبيتها من نصارى العرب، و هو في الأساس قس مسيحي، و أضف إليه سجاح بنت الحارث ، و هي من الجزيرة الفراتية قرب بادية الشام ( الأردن حالياً ) ، حيث إتحد الإثنان ، بع أن تزوجا ، و تم توحيد الجيوش و الأتباع و شكلا كماشة تحاصر حدود الدولة الشرقية الجنوبية ، و الشمالية في حرب ضروس طويلة ضد الجمهورية المصطفوية .. فكان من الحتمي ، و المنطقي بل و الواجب على عمر ، أن يقمع التمرد ، و مدعي النبـــوة و المهرطقين ، و العابثين و المخربين ، و أن يمنع أي محاولة لإختراق الأمة من خلال اللعب على عاطفة الدين و الملة ، بأن يجلي مواطنيه من منطقة إلى أخرى معززين مكرمين داخل حدود الدولة ذاتها ، محتفظين بكافة حقوق المواطنة و معوضين بأضعاف ما كانوا يمكلون .. وما بال متهميه بالعنصرية الدينية أو القومية لا يتذكرون ما فعل حين فتـــح القدس ، و دخل كنائس بيت المقدس و بيت لحم ، و حافظ و حمى مسيحييها و صلبانهم و مقدساتهم و ممتلكاتهم و كنائسهم .. ووقع معهم ميثاقاً ما زال يستشهد به لى يومنا هذا !
الحق ، و العدل و المساواة ، معادلة حققها عمر بن الخطاب في نفسه و طبقها في منهاج حكمه قبل أن تصبح نظرية حكم تقدمية يتشدق بها المنظرون و فلاسفة علوم السياسة و الإجتماع .. و ببساطة نسأل من يدعون أن عمراً كان عنصريا ، سؤالاً بسيطا ، من كان مولى (عامل) عمر ؟ ؟ ألم يكن رومياً مسيحياً و إسمه وسق ؟ و لطالما دعاه عمر أن يسلم ، وكان وسق يرفض دائماً بأدب جم ، و يقول أنه ملتزم بمسيحيته ، فما كان رد عمر ؟ ( إنك لا تهدي من أحببت ) ، و يا سبحان الله الم ير أحد سلمان الفارسي ، الأعجمي ، غير العربي ، و كيف عينه عمر والياً على المدائن ؟ هل في هذا تقديم و تكريم أم إساءة و تحطيم ، هل في هذا الفعل أي إعتبار لجنسية و أصل أم هو قرار مبني على ما رآه من شجاعة و إيمان و ثقافة عند سلمان الفارسي ؟ بل وكيف لعمر أن يكون فيه نزعة عنصرية على أساس قومي أو ديني و نبيه الذي يفديه بأمه و أبيه ، تزوج من مسيحية و يهودية ؟ و لدينا ما ليس مجال شرحه في هذا المقام ، أن السيدة مارية القبطية و السيدة صفية بنت حيي اليهودية لم تكونا أبداً مملوكتان ولا جاريتان و إنما زوجتان لرسول الله و أمهات للمؤمنين .
هذه الشخصية ، القيادية ، الحكيمة لعمر ، كان لها اصول و منابت ، ولعل من اللطائف هنا أن نذكر أن عمراً رضي الله عنه كان شديد الشبه بإبن عمته " خالد بن الوليد " حيث عرف عنهما قوة مفرطة في البنيان و الطول الباسق ، و إحمرار أو شقرة الشعر ، و يبدو أن هناك تشابهاً واضحاً في طباعهما أيضاً من حيث النفرة و النزق وقد وردت قصص في الأثر حول مصارعة بينهما في سنوات الصبا ، كسرت بسببها ساق عمر ، حتى بات يهمز عليها ، و إحتج بعض المتأولة و المتأسرلين و المستشرقين من الرواة على أمير المؤمنين بأن هذه الحادثة أثرت في نفس عمر ، و أنها كانت السبب الرئيس في عزله لخالد حين تولى الحكم ، و بالطبع هذا أسخف ما سيق من أقاويل و أبشع ما يمكن أن يحتج به من أسباب ، فمصارعة عمر لخالد ، كانت ضمن مئات بل آلاف المرات التي تصارع فيها شباب و رجال القبائل وقد كانهذا حال من أحوالهم و نمطاً من أسليب تفيههم و مظهرا من أسلوب حياتهم ، و كانت المصارعة أحد أهم الرياضات التي يمارسها العرب ، و أصيب خالد عدة مرات ، و حمزة ، بل إن رسول الله عليه الصلاة و السلام صارع علياً و صرعه ، و صارع غيره ولم يترك ذلك أي أثر سوى توطيد المحبة و الإخاء بين اللاعبين .. بل أبعد من هذا فإن الرياضة و ركوب الخيل و الرماية و السباحة و هي أحب الرياضات البدنية إلى عمر وقد أوصى بها شباب الأمه، و الرياضة بالنسبة له ربما كانت أحد العوامل في تشكيل و تهذيب و تأهيل نفسه ، لتكون بقدر ما هي هادئة ، بقدر ما هي عميقة ، و بقدر ما تحتم الصبر على الألم بقدر ما تعلم منهجية التفكير و إجادة التدبير .
و المعروف و الثابت عن عمر بن الخطاب هو شدة إحترامه للتراتبية ، و الإنضباط ، و في رأينا أن هذا الخلاف في الرؤية الإدارية ، هو السبب الحقيقي لإستبعاد إبن عمته ، و صديق عمره ، و صاحب رسول الله ، و قائد جيوش المسلمين خالد بن الوليد ، فقد كان خالداً يرى أن الجيش لابد أن تكون له موازنة خاصة ، و أن يعكى قائد الجيش صلاحيات واسعة في إستعمال أموال الجيش في ما يراه يصب في مصلحة الجيش ، فكيف يفوض بأن يضع الخطط ، و يحرك المقاتلين للنصر أو الموت ، ولا يقفوض في أموال تصرف لهم أو عليهم ، هذه كانت وجهة نظر خالد ، و لم يتفق معه عمر في هذا فكان يرى أن قائد الجيش مما علت مكانته و عظم شأنه لابد أن يرجع في أمور الصرف و الأموال إلى القائد الأعلى الذي هو ( الرئيس ) أو أمير المؤمنين .. و لا يفوض في صرف مليم واحد دون إذنه . و ربما يتضح هذا في الرواية حيث روى الزبير بن بكار رحمه الله تعالى قال: "كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حسابًا، وكان فيه تقَدُّمٌ على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها أبو بكر".
ونقل الزبير بن بكار عن مالك بن أنس قوله: "قال عمر لأبي بكر: اكتب إلى خالد لا يعطي شيئًا إلا بأمرك. فكتب إليه بذلك، فأجابه خالد: إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزئ عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا. قال: فأنت. فتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، فمشى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقالوا: ما شأن عمر يخرج وأنت محتاج إليه؟ وما بالك عزلت خالدًا وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟ قالوا: تعزم على عمر فيقيم ، و تكتب إلى خالد فيقيم على عمله، ففعل ، فلما تولى عمر كتب إلى خالد أن لا تعطِ شاة ولا بعيرًا إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل ما كتب إلى أبي بكر. فقال عمر: ما صدقتُ اللهَ إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه فعزله، ثم كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما يشاء، فيأبي عمر".
ويؤيد ذلك ما نُقل عن عمر من قوله: "إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه، وما كان يصنع في المال".
وذكر الحافظ ابن كثير ذلك فقال: "وقيل: عزله؛ لأنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف، حتى إن خالدًا لما عُزل ودخل على عمر سأله: من أين لك هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان".
ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بسند جيد، أن عمر رضي الله عنه اعتذر من الناس في الجابية فقال: "وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضَعَفَة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللَّسَانة، فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة".
هذه كما نرى بشكل واضح و جلي كانت حجة أمير المؤمنين ، ولم يكن عزل خالد لغرض في نفس عمر ، ولا لحقد قديم أو غيرة معاذ الله ، و لا نرجح رغم ما روي على لسان عمر أن يكون السبب الرئيس و الأهم هو الخوف من إفتتان الناس بخالد معاذ الله كما يدعي البعض .
ولو كان في الأمر ما يتعدى كونه خلاف إداري ، و رؤية لهيكلة السلطة و التننظيم ، لما وقف عند هذا الحد ، فالحقد يكون بين حاقد و محقود عليه ، كاره و مكروه ، و يتبعه فعل ظالم بمظلوم ، و طبيعة خالد التي نعرفها لا تقبل الظلم و لا تعرف الحقد و لا الكره ولا تنحني بل تواجه و تناضل ، و لأن السبب لم يتعد كونه خلافاً تنظيمياً بحتاً سكت خالد ، و رضي و أطاع الأمر و إنتهى .
وكما كان عمر بن الخطاب جميلاً في نفسه ، و روحه ، و سلوكه ، قوياً في إدارته و إرادته و إيمانه ، كان أيضاُ بهي الطلة ، مهاب الجانب شكلاً و مظهراً ، فقد وصفه الرواة بأنه كان ادم البشرة (أسمر) مشرباً بحمرةٍ، ، سبلته ( الشعر في مقدمة اللحية) كثيرة الشعر فى أطرافها صهوبة ( شقار )وقد اختلف الرواة في لونه، فالكوفيون العراقيون يقولون إنه آدم شديد الأدمة أي السواد، والحجازيون يقولون إنه أبيض مشرب حمرة وقد أخرج ابن سعد في طبقاته عن القاسم بن محمد قال: سمعت بن عمر يصف عمر يقول: "كان رجلا أبيض تعلوه حمرة طوالا أصلع أشيب".
و الصحيح أنه لم يكن بالأسمر ، و إنما رأه أهل الكوفة العراقيون بعد سفر طويل و جهد ، و تقدم في العمر ، و إنما هي شدة إحمرار يصل إلى اللون البرونزي ، عظيم الجسد فاره الطول طويل الشعر شاباً ، وعند الكبر أصلع، له حفافان (شعر في ناحيتي الرأس)، حسن الخدين، والأنف، والعينين، غليظ القدمين والكفين، حسن الخَلْق، ضخم الكراديس (مرافق الأعضاء كرأس الكتف و الكوع و الركبة )، أعسر يسر (يعمل بيديه جميعا اليمنى واليسرى) و القدرة على التحكم كتابة و شغلاً بكلتا اليدين أمر يحتاج إلى فهم و توقف ، فهي قدرة عقلية على التحكم بنفس القدر و الإنضباط وعلمياً هي دلالة على شدة الذكاء و قدرة التحكم العقلي ،ومن صفات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أيضاً أنه " إذا مشى كأنه راكب " وفي هذا إشارة بالغة الدقة حول الخفة و الهمة و السرعة في الحركة ، إضافة إلى أنها رسم شكل الحركة ، اتي تشبه حركة الراكب على صهوة جواد .
وقد يكون الخبر الذي ساقه الواقدي صحيحا حيث قال:"كان عمر أبيض أمهق، تعلوه حمرة، يصفر لحيته وإنما تغير لونه عام الرمادة لأنه أكثر أكل الزيت، وحرّم على نفسه السمن واللبن حتى يخصب الناس فتغير لونه، ولا يُعرف عندنا أنّ عمر كان آدم إلا أن يكون (من وصفه بذلك) رآه عام الرمادة".و كان آدم ، شديد الأدمة ، طوالا ، كث اللحية ، أصلع أعسر يسر ، يخضب بالحناء و الكتم . و قال أنس : كان أبو بكر يخضب بالحناء بحتا . قال أبو عمر : الأكثر أنهما كانا يخضبان . و قد روى عن مجاهد ـ إن صح ـ أن عمر بن الخطاب كان لا يغير شيبه . و جميعهم في رأينا صادق ، فمنهم من رآه مخضب ( يصبغ شعر رأسه و لحيته ) و منهم من رآه أشيب دون خضاب .. و كل رآه على حال و كل صادق فيما روى .. وعلى أي حال سيظل عمر بن الخطاب ، فاروقاً ، و رمزاً للعدل ، و أحد أهم أركان و بنائي الدولة المصطفوية ، الدولة الأنموذج ، و المثل الأعلى لكل الأحرار في العالم ، و أنا فيما أوردت في هذه العجالة بالقطع لم و لن أوفيه حقه ، فالإحاطة بكل مناقبه و شمائله رضوات الله تعالى عليه أغزر و أعمق من أن يقدر عليها مثلي ، بل و العصبة من الرجال و النساء جميعاً ، و ربما تعجز كل أدوات البحث ومناهجه في تحصيل كامل لصفات و ملامح هذا القائد الأمير و لكني حاولت أن أقارب الحقيقة ، و أسأل الله أن يوفقني على قدر صفاء نيتي .