( الحلقة الأولى )
تزاحم الشخصيات و الرموز في عقول الناس ، خاصة عصر الصورة و البث المرئي و السلكي واللاسلكي و الرقمي الإفتراضي و متعدد الأبعاد و التجسيدي خلق إبداعات في رسم الشخصيات ، الأسطورية ، و التاريخية و المعاصرة .
ولكل إبداع أو عمل مؤثر هيئة من المستشارين و الخبراء الذين يحددون للشخصية شكلها ولون بشرتها و ملبسها و حركتها ليس فقط لتتماهي مع البناء الأصيل و الحقيقي للشخصية ، ولكن حتى تكون الشخصية المخلقة و المبنية على أسس إبداعية أكثر تأثيراً في الجماهير و أكثر ترويجاً للرسالة المقصودة من العمل الإبداعي رسماً كان أم تمثيلاً .. بل زادوا في تفاصيل إعادة بناء الشخصيات إلى حد التحكم في شكل الشخصية تبعاً للوقت و المناخ و طبيعة المشاهدين و الغرض من الظهور ، هل يحتاج إلى حدة في الملامح ؟ غلظة ؟ قسوة ؟ تسامح أم براءة ؟ هل البشرة الداكنة أكثر تناسباً مع الحال ، أم تفتيحها أفضل ؟ لون الشعر ، لون العينين ، الملابس و غيرها من التفاصيل بل و تفاصيل التفاصيل ..ورغم كل هذه المؤثرات ، و المُجملات أو المقبحات ، تظل الشخصيات التاريخية لكل أمة وثقافة ، المنقوشة على صفحات الكتب و بين أحرف الكلمات المكتوبة هي الأكثر تأثيراً و حضوراً و هيبة أو محبة ..
وفي عالمنا العربي ، كان ومازال تقمص و تمثيل شخصيات تاريخية رغبة ملحة لدى المبدعين و أيضاً شغف و فضول جارف لدى الجماهير ، إلا أن كثيراً من تلك الشخصيات حين تمت قولبتها و تثبيتها كصورة ذهنية لدى المشاهد ، كان فيها بخس و تجَنٍ و إفقار لحقيقة الشخصية الأصلية ... وللأسف فقد رسخت في عقولنا أجيالاً بعد أجيــال صوراً و ملامحاً لشخصيات تاريخية هي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن الشكل المقدم إبداعاً ، و فيها تقليل يصل إلى حد التشويه للشخصية الأصلية ، هذا من حيث الشكل و المظهر بالطبع ناهيك عن الجوهر و طريقة التفكير و الحديث و منطقه ..
فعلى مدى أجيــال ، منذ بدايات الإنتاج الدرامي العربي على سبيل المثال ، من منا لم ترسخ في ذهنه صورة الفنان أحمد مظهر على أنه صلاح الدين الأيوبي ؟ و عبد الله غيث ، و أنتوني كوين ، على أنه سيدنا حمزة بن عبد المطلب ، وغيرهم الكثير من الرجال و النساء ، بل زاد الطين بله ما نشطت فيه السينما التركية و الإيرانية و بعض العربية ، في تصوير الأنبياء ، كسيدنا يوسف عليه الصلاة و السلام ، ناهيك عن عشرات بل مئات مما أنتجته السينما الغربية تصويراً للسيد المسيح عليه الصلاة و السلام و سيدتنا المصفاه البتول مريم عليها السلام وأنبياء و شخصيات كثيرة ، و كان التصوير في رأيي المتواضع متعسف و بشع و مقل من قيمتهم و قدرهم ، على مستوى المضمون ، و أيضاً على مستوى الشكل .. كما حدث في مسلسل عمر بن الخطاب ، الذي قزم شخصية أمير المؤمنين بشكل رهيب و مسح ما للشخصية من هيبة في المضمون ، و قوة وهيبة في الشكل .. و قد جمعت هنا بعض الصفات الشكلية و الملامح السلوكية و الذاتية لكبار صحابة رسول الله محمد ، عليه الصلاة و السلام ، القادة رؤساء الجهوريات المصطفوية الأربع بعد جمهورية النبي المصطفى عليه الصلاة و السلام ، ووزير الدفاع الأول للجمهوريات المصطفوية سيف الله المسلول ، و أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، أضعها بين يديك بعد أن قمت بتجميعها من عدة مصادر ، و بسطت لغتها و أضفت و حذفت و لكني حافظت على المصداقية و الدقة ما أستطعت ، قاصداً ان تكون مرجعاً ، يميز به الواحد منا الخبيث من الطيب ، و الأصيل من الزائف وليحكم على ما يتم تشخصيه أو سيتم تشخيصه مستقبلاً..
* خليفة رسول الله
الرئيس الثاني ، للجمهورية المصطفوية
أبو بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة القرشي التيمي (رضي الله عنه)
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، سمّاه الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بعبد الله بعد أن كان يسمّى بالجاهلية عبد الكعبة؛ ويلتقي نسب أبو بكر -رضي الله عنه- مع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الجد السادس مرّة بن كعب ، وقد كان من وُجهاء قريش وأحد أشرافهم، كما كان موكّلاً بالدِيــات، وقد ناداه الرسول - عليه الصلاة والسلام – بالصدِّيــق لكثرة تصديقه إيّاه، فقد كان أوّل من صدّق النبي في حادثة الإسراء والمعراج،ومن ألقابه أيضًا العتيق، فقد لقّبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالعتيق لأنه كان رقيق الوجه و الملامح .
ترجح عدة مصادر أن يوم ميلاده كان يوافق 27 أكتوبر 573 م ، و بالقطع يثير ذكر تاريخ الميلاد فضول المهتمين بتحيلي الشخصية تبعاً لتاريخ تولدها، فهذا التاريخ فلكيــاً هو لمواليد برج العقرب ، و بنظرة سريعة على صفاته نرى الكثير من التطابق و التشابه في طبيعة التكوين للشخصية الرائعة لسيدنا خليفة رسول الله رضي الله تعالى عنه .. من ذكاء وولاء و حزم و قوة و إندفاع و إقدام ، ولكن باتزان و حصافة ، و علّ الصفة الأهم هي الصدق و الوضوح و من أعظم مناقب الصدِّيق هو شخصيته المتوازنة في جميع الجوانب، و يذهب الكثير الى أنه و رغم شهرة أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب بالشدة و الحزم ، إلا أنهم يرون في أبي بكر شدة أكثر و حزماً أشد في القبض على أمور الدولة و الحكم ، و ليس أدل على هذا من موقفة من قضية أرض فدك ، و تمسكه بتطبيق ما سمع من رسول الله حرفياً ، رغم إحتجاج الطاهرة بنت النبي فاطمة عليها و على أبوها أفضل الصلاة و السلام ،فقد خرج البخاري في صحيحه الجزء الخامس ( ص 82 ) في كتاب المغازي باب غزوة خيبر قال : عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت النبي عليه الصلاة و السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها مما أفاء عليه بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر : إن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال : « لا نورث من تركناه صدقه إنما يأكل آل محمد من هذا المال . . . إلى أن يقول البخاري فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت و عاشت بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا و صلى عليها ولم يؤذن بها أبا بكر و أورد مسلم في صحيحه ذات الواقعة مع تغيير طفيف في الألفاظ يقول « فغضبت فاطمة » بدل كلمة وجدت ، و نقول أنه و رغم ألمه رضي الله عنه ، و حبه الشديد لإبنة نبي الله ، إلا أنه إختار طريق نبي الله على إرضاء إبنته ، و عاملها بلطف و لم يرد عليها كلمة أو يرفع صوتاً ، رغم ما جاء في كثير من الروايات حول مرافعة و حديث سيدتنا إبنة النبي عليه الصلاة و السلام ، و لكن أبو بكر الصديق ، لمعرفته بمقدارها وقدرها ، و طبيعتها و سنها الذي لم يتجاوز العقد الثاني إلا قليلا في ذلك الوقت ، و إحساسها بالغبن لرغبتها في رؤية زوجها و إبن عمها علي خليفة لأبيها ، رغم حبها الشديد لمن هو في مقام ( عمها ) و صديق أبوها الصدِّيــق الصــَدُوق ، إلا أن أبا بكر سكت ، بعد أن بين حجته ، و أغضب فاطمة إقتناعاً منه بأنه بذلك يرضي الله ورسوله و ضميره الحر ، إن رجلاً بهذه القوة و الثبات ، لا يمكن إلا أن يكون من أولياء الله ، و عباده الذين اصطفى ، و علي لا أبالغ إن قلت أن الفعل ذاته ، كان سيقوم به الإمام علي ، و لم يكن ليُـرضيَ زوجتـه على حساب دينـه ، و كان سيوضح لها اسبابه كما فعل الصديق ، و الحق أن فاطمة حين سمعت دفع الصديق و حجته ،سكتت ، ولكنها إعتزلت ، و في هذا قول و أقوال لا يتسع لها المقام هنا ، ولكن على أي حال فهذا دليل قاطع و حاد ، على قوة أبو بكر بالحق و للحق ، و مثال آخر عندما أصر على محاربة المرتدين عن دفع الزكاة و منكريها رغم معارضة عمر و غيره ، و كذلك إعجابه و مساندته لسيف الله خالد بن الوليد في الكثير من المواطن و الوقائع .
ورغم قوته في الحق ووضوحه وصدقه ، إلا أنه كان رقيق القلب ، قريب البكاء ، جياش المشاعر فلا يقرأ القرآن إلا و يبكي ، و يختنق صوته ، و لا يرفع صوته أمام صاحبه و صديق عمره محمــداً ، و بهذه التركيبة النفسية التي تجمع بين الشدة و الحزم في مواقف القيادة و الإدارة و المنافحة عن دين الله و دولة رسول الله ، و بين الرقة و غضاضة القلب و الصفاء و التسامح ، إنما هو خير ما يمثل و يترجم الآية الشريفة التي وصف بها الله تعالى المؤمن الحق : " محمدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا " الفتح 29
و من مجموع صفاته البدنية و النفسية ، يبدوا بوضوح أنه خلق لمهمة و موقع في الحياة كان لزاما أن تكون تلك مكوناتها و صفاتها ليصبح أحد عوامل نجاح الدعوة و تبليغ الرسالة .
في مظهره الخارجي كان سيدنا خليفة رسول الله رضي الله عنه يوصف بالبياض في اللون،ونحالة في البدن، وفي هذا يقول قيس بن ابي حازم : دخلت على أبي بكر،وكان نحيفاً ،خفيف اللحم أبيض، ويبدو من وصفه أنه لم يكن أبيضَ اللون بالمعنى المتعارف عليه ، بل كان فاتح لون البشرة ، مائلاً للصفرة نظراً لطبيعة بنيان جسده الضعيفة النحيلة ، فقد وصفه أصحاب السير من أفواه الرواة فقالوا: ان أبا بكر رضي الله عنه اتصف بأنه : كان أبيض تخالطه صفرة، حسن القامة، ليس بالطويل و لا بالقصير ، ولا هو بالربعة في الشكل ، نحيفاً خفيف العارضين، اجنـأ ( يعني في أعلى ظهره بعض الإنحناء - الحدب ) لضعفه ، لا يستمسك ازاره ( يعني تتسع عليه ملابسه فتراها مرتخية مهدلة ) يسترخي عن حقويه ( يعنى يتدلى عن خاصرته ) ، رقيقاً معروق الوجه ( أي عروق وجهه و جبينه بادية ظاهرة ) ، غائر العينين ، أقنى ( أي محدوب أو مقوس الأنف ) ، حمش الساقين ( أي دقيق ، رفيع الساقين) ، وكان ناتىء الجبهة،عاري الأشاجع ( أي أن عروق ظهر كفيه واضحة ) ،ويخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم.
ومات بالمدينة بعد الرسول - عليه و على آله و صحبه الصلاة و السلام - بسنتين وثلاثة أشهر وبضع ليال ، في ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، الموافق الثالث والعشرين من شهر آب / أغسطس من عام ستمائة وأربعة وثلاثين ميلادية، وكان عمره ثلاثاً وستين عاماً.
ولمّا كان اليوم الذي قُبض فيه أبو بكر رجّت المدينة بالبكاء ، ولعل في كلمات أمير المؤمنين و إمامهم علي بن أبي طالب ، خير إيجاز و أعمق و أبلغ ماقيل في وصف و تحليل شخصية خليفة الرسول الأعظم ، حين وقف على البيت الذي فيه أبو بكر مسجّىً فقال : (رحمك الله يا ابا بكر , كنت و الله اول القوم اسلاماً و اخلصهم ايماناً و اشدهم يقينا و اعظمهم عناء و احفظهم على رسول الله عليه وعلى آله الصلاة و السلام و احربهم على الاسلام و احناهم على اهله , و اشبههم برسول الله صلى الله عليه و سلم خُلقاً و فضلاً و هديًا و سمتاً , فجزاك الله عن الاسلام و عن رسول الله و عن المسلمين خيرا , صدّقت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين كذّبه الناس , و اوسيته حين بخلوا , و قمت معه حين قعدوا , كنت و الله للاسلام حصينا و على الكافرين عذابا , لم تفللْ حجتك و لم تضعف بصيرتك و لم تجبنن نفسك كنت كالجبل لا تحركه العواطف و لا تزيله العواصف كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عنك : ضعيفا في بدنك , قويا في امر الله , متواضعا في نفسك عظيما عند الله , قليلا في الارض كثيرا عند المؤمنين , لم يكن لاحد عندك مطمع و لا لأحد عندك هوادة فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق له , و الضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له , فلا حرمنا الله اجرك , و لا اضلنا بعدك).